ثمة بعض النقاط التي يتمسك بها الاتحاد الأوروبي تأثرت كثيرا بتداعيات وباء كورونا وبالتالي لم يعد مجديا الإصرار عليها بالمفاوضات مع لندن
رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، لا يزال متمسكا بالخروج من الاتحاد الأوروبي في موعده المحدد، ولا يزال أيضاَ متمسكاً بالوصول إلى اتفاق مع بروكسل قبل موعد الخروج في الحادي والثلاثين من ديسمبر المقبل، و ذلك لا يلغي حقيقة أن الرجل نجح في الظفر بما يريد سياسياً خلال العامين الماضيين على الأقل.
وصل جونسون إلى رئاسة الوزراء مرتين في العام 2019، وفاز في الانتخابات العامة الأخيرة بأكثرية ساحقة في البرلمان، أبرم اتفاق خروج مع الاتحاد الأوروبي، حاصر وباء كورونا في بلاده، وقد كان رئيس الحكومة الوحيد حول العالم الذي يصاب به، وهاهو اليوم يسعى إلى اتفاق تجاري خاص مع التكتل الأوروبي يتيح له طرق أبواب العالم بعلاقات مستقلة للمملكة المتحدة.
ما الذي يتسلح به جونسون في هذه المقامرة التي تبدو خاسرة في أوقات عصيبة تعيشها بلاده والعالم تحت وطأة الجائحة؟ هل تستطيع لندن فرض شروطها على الطرف الأوروبي، ودفعه نحو توقيع اتفاقية تجارة حرة خلال هامش زمني ضيق؟ وقبل هذا وذاك، هل الخروج دون اتفاق مع بروكسل ينطوي فعلاً على خسارة كبيرة لا يمكن لبريطانيا احتواؤها والتعامل معها؟
ثمة بعض النقاط التي يتمسك بها الاتحاد الأوروبي تأثرت كثيرا بتداعيات وباء كورونا داخل التكتل نفسه، وبالتالي لم يعد مجديا الإصرار عليها في المفاوضات مع لندن.
رئيس الوزراء يقول إن المسافة بين لندن وبروكسل ليست بعيدة كثيراً، وهذا يعني أنه مستعد لتقديم تنازلات في بعض الملفات التي قد يهتم لها الأوروبيون أكثر من غيرها، من بينها سوق العمل البريطانية وفرصها الكثيرة أمام العمالة الوافدة من سبع وعشرين دولة في التكتل، ومن بينها أيضاً الصيد البحري الذي لا يريد الاتحاد تغيير الحصص المعتمدة فيه بين الدول المعنية.
ثمة بعض النقاط التي يتمسك بها الاتحاد الأوروبي تأثرت كثيرا بتداعيات وباء كورونا داخل التكتل نفسه، وبالتالي لم يعد مجديا الإصرار عليها في المفاوضات مع لندن، لنأخذ معايير حوكمة الشركات على سبيل المثال، هناك أصوات من داخل التكتل تطالب بمراجعتها والنظر إليها بعين الواقعية التي فرضتها الجائحة، على اقتصاديات دول القارة العجوز والعالم ككل.
في السياق ذاته يطفو التساؤل حول قدرة "الواقعية الكورونية" على تذليل العقبات بين لندن وبروكسل؟ .. التجربة تقول إن الجائحة حضرت بخجل على طاولة المفاوضات بين الطرفين، وفشلت في إزالة الخلافات خلال أربع جولات متتالية، لا يبدو أن القول الفصل سيكون لها في الجولة الأخيرة التي تمتد حتى نهاية يوليو المقبل، ولكن تأثيرها سيرى بالعين المجردة، إن جاز التعبير.
هناك اتهامات لحكومة جونسون بالسعي نحو "الطلاق" الصعب مع بروكسل، وهناك من يقول إن دولاً في الاتحاد الأوروبي تريد لبريطانيا مستقبلا متضعضعاً اقتصاديا يجعلها غير قادرة على منافسة دول التكتل لأكثر من عقد، لا يوجد ما يؤكد أيا من الروايتين على حساب الأخرى، ولكن المشترك بينهما هو أن المحادثات بين الطرفين اليوم معطلة بشكل مقصود ولأسباب محددة.
صحيح أن فريق 10 داوننغ ستريت اليوم ينتمي إلى تيار سياسي لا يريد ارتباطاً مع الاتحاد الأوروبي، يمنع البلاد من مد جسور الاتفاقيات التجارية مع دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولكنه أيضا لا يريد عزل المملكة المتحدة عن عمقها الثقافي والاقتصادي والاستراتيجي والأمني، كما أنه لا يريد للمملكة أن تتفكك بسبب الخروج وتداعياته على وحدة واستقرار الأقاليم الأربعة.
هناك الكثير ليضحي به جونسون إن فضل الطلاق الصعب مع الاتحاد الأوروبي على تمديد المرحلة الانتقالية للخروج، أو التنازل قليلاً لإبرام صفقة تبقي البريطانيين على اتصال مع جيرانهم، لا شك في أن المملكة المتحدة اليوم متعبة جداً بعد سنوات من "بريكست" الغامض، وأشهر طويلة من الوباء الذي يهدد العالم بأزمة اقتصادية أسوأ من عام 2008، وربما أسوأ من الكساد الكبير.
مهما كانت الاتفاقيات التجارية التي تنتظرها لندن لتعويض غياب بروكسل، فهي لن تكون كافية لاحتواء مزيد من الهزات الاقتصادية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا نذيع سراً بالقول إن المملكة المتحدة باتت تعاني كثيراً من الأعباء اليوم، وجزء يسير من هذه الأعباء تسببت بها سياسات حزب المحافظين الحاكم على مدار أكثر من عشر سنوات في إدارة البلاد وقيادة الحكومة.
تبنى جونسون حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، ولم يكن حينها رئيساً لحكومة ولم يكن هناك ما يضطره إلى التراجع أو التنازل، وعندما ترأس الحكومة بات أكثر مرونة، وتراجع أكثر من مرة عن قراراته، مدد موعد الخروج عندما تطلب الأمر، وتنازل عن سياسة مناعة القطيع عندما أدرك أنها ستقود إلى كارثة بسبب الوباء.
ليست مرونة جونسون هي الضمانة الوحيدة لنجاح البلاد في مفاوضات الخروج مع الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل تجنبها الخسارة الفادحة في هذه المعضلة المستمرة منذ نحو خمس سنوات، هناك البرلمان البريطاني، صحيح أن الغالبية فيه لحزب المحافظين، ولكننا شهدنا سابقا تمردا بين صفوف الحزب على قيادته عندما توجب عليهم الاختيار بين المصلحة الحزبية والوطنية، والحكم في المملكة المتحدة هو برلماني وليس رئاسياً في نهاية المطاف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة