"خطابات نووية" ومعضلة سكن.. كواليس أول أيام تراس بـ"دوانينج ستريت"
"حدث نادر" و"قرار شخصي" و"ضغط على الطاولة".. ثلاثة أمور تجسد الساعات والأيام الأولى لرئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس بالمنصب الجديد.
هذا الواقع الصعب شكله التاريخ الطويل لرؤساء الوزراء المتعاقبين في "داونينج ستريت 10"، وعدد من الأمور الاستثنائية الراهنة، ومنها أمر لم يحدث منذ أكثر من 100 عام.
وأيا كان ما يفعله رئيس وزراء المملكة المتحدة الجديد بعد أن يكمل تنصيبه مباشرة في "داونينج ستريت 10"، يوم غد الثلاثاء، إلا أنه سيكون قد انتهك لتوه بالفعل أحد الأعراف الراسخة في تنصيب شاغلي المنصب الرفيع.
إذ من المنتظر أن يجري تعيين ليز تراس في المنصب في بالمورال بإسكتلندا بدلا من قصر باكنجهام في لندن، بسبب مخاوف بشأن تنقل وحركة الملكة إليزابيث وإصرارها على تعيين رئيس وزرائها بنفسها.
ويعني ذلك أن وقت رئيسة الوزراء الجديدة سيبدأ بشكل مختلف عن أي شخص آخر تولى المنصب منذ هربرت أسكويث، الذي جرى تعيينه في عام 1908 بمنتجع بياريتز الفرنسي، حيث كان الملك إدوارد السابع يقضي عطلة.
وبخلاف استثناء أسكويت، كانت تجري مراسم تعيين رئيس الوزراء في قصر باكنجهام بلندن، ثم ينتقل رئيس الوزراء المعين بسيارة في رحلة تستغرق دقائق قليلة إلى "داونينج ستريت" لإلقاء خطاب أو تعليقات للصحفيين، قبل أن يحظى باستقبال من موظفي رئاسة الوزراء.
لكن تراس ستعاني من وضع مختلف، إذ تسافر مسافة طويلة إلى بالمورال، ثم تعود منها إلى داونينج ستريت في نفس اليوم لإلقاء خطابها.
وبصرف النظر عن الموقع ووسائل التنقل للعودة إلى "داونينج ستريت"، فإن الآليات السريعة لتولي السلطة وتشكيل الحكومة ستسير على نفس النهج المكثف الذي اتبعه رؤساء الحكومة السابقون.
ووفق موقع "آي نيوز" البريطاني، هناك عدد قليل من الأشخاص المؤهلين أكثر من الخبيرة كاثرين هادون، للحديث عما يواجهه رئيس الوزراء في ساعاته وأيامه الأولى في الوظيفة الحلم.
ودرست هادون انتقال السلطة في المملكة المتحدة لمدة 14 عامًا والتقت برؤساء وزراء محتملين في الماضي لإطلاعهم شخصيًا على ما يمكن توقعه.
ووفق الخبيرة البريطانية، لا يحظى رؤساء الوزراء الجدد بأشهر للتحضير لعملية انتقالية للسلطة مثل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية الذين يتم انتخابهم في نوفمبر/ تشرين الثاني، ويتسلمون المنصب في يناير/كانون الثاني.
لكن هادون تقول: "سيكون هناك الكثير من العمل وراء الكواليس" لتراس، مضيفة أن "مكتب مجلس الوزراء سيتحدث معها ويناقش خططها للحكومة المقبلة، والأمور العاجلة التي تحتاج إليها لتكون الخدمة المدنية جاهزة في اليوم الأول (الثلاثاء)".
لقاء الملكة
ولتعيينها بالمنصب، يجب أن تقابل تراس الملكة إليزابيث، وفق الأعراف المتبعة، لكن في بالمورال هذه المرة، فرحلتها مختلفة تمامًا عن رحلة كليمنت أتلي لنيل تعيينه في المنصب الرفيع في عام 1945.
وفي ذلك العام، ذهب أتلي إلى قصر باكنجهام لمقابلة الملك جورج السادس في سيارته العائلية، لكن لم يعرف أي من الرجلين الخجولين ما يقوله لبعضهما البعض عندما تلاقت الوجوه في لحظة التعيين.
إلا أن أتلي كسر الصمت في النهاية بقوله: "لقد فزت في الانتخابات". ورد الملك، الذي قبل استقالة ونستون تشرشل بحزن قبل دقائق قليلة: "أعلم، لقد سمعتها في نشرة الساعة السادسة".
بعبارة أخرى، ستكون مراسم استقالة رئيس الوزراء الحالي وتعيين الجديد أسهل هذه المرة، من مراسم الصباح التالي للانتخابات العامة.، لأن بوريس جونسون وفريقه وعائلته عرفوا منذ أسابيع أنهم سيغادرون المنصب، ومقر إقامة رئيس الحكومة، ويعرفون موعد ذلك، ولن يكون الأمر مفاجئا وصعبا.
ومن المتوقع أن يلقي جونسون كلمة إلى الأمة صباح الثلاثاء، قبل أن يتوجه إلى إسكتلندا ويقدم استقالته إلى الملكة.
وبعد دقائق من استقالته، ستعين الملكة تراس رسميا في المنصب.
وعن لحظة التعيين المعروفة بـ"تقبيل الأيادي"، كتب رئيس الوزراء السابق، جوردون براون في سيرته الذاتية "حياتي.. زماننا": "على عكس الأسطورة، فإن رئيس الوزراء لا يقبل أيدي الملكة.. إنهما يتصافحان".
لكن توني بلير رئيس الوزراء السابق، يتذكر في كتابه "رحلة" أن أحد المسؤولين في القصر قال له قبل لحظة تعيينه "امسحهما (يدي الملكة) بلطف بشفتيك"، مما جعله "مرتبكًا".
وعندما مرّ من الباب لمقابلتها بعد ثوانٍ فقط، وجد بلير "المتوتر" نفسه "لسوء الحظ يتعثر قليلاً على قطعة من السجادة حتى وقع عملياً على يدي الملكة"، وفق ما كتبه في كتابه.
وبعد التعيين، ستبدأ رئيسة الوزراء، العمل في رحلة العودة الرسمية إلى لندن قبل إلقاء الخطاب المقرر في الساعة 4 مساءً الثلاثاء.
وهذا يمنح فريق رئيسة الوزراء الجديدة، وقتًا أطول من المعتاد للتحضير لكلمة تراس، لكن "سيظل هناك تسليم سريع للسلطة في داونينج ستريت"، كما تقول هادون.
ووفق هادون، قد يتوقع المرء أن يساعد الحزب المشترك (المحافظين) للقائد المنتهية ولايته ورئيسة الوزراء الجديدة، في تسليم سلس للسلطة، ولكن مع التحول من تيريزا ماي إلى بوريس جونسون قبل سنوات، بعد صراع طويل ومرير على السلطة، "كان المستشارون الخاصون الذين يخدمون الإدارة القديمة أشخاصًا غير مرغوب فيهم إلى حد ما بالنسبة لفريق جونسون"، وفق الخبيرة البريطانية.
الخطاب الأول
ويُمنح رؤساء الوزراء في الوقت الراهن لحظة أكثر تنظيما لإلقاء الخطاب الأول في داونينج ستريت، مما كانت عليه الأمور في أيام رئيس الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر.
وفي عام 1979، واجهت تاتشر مجموعة من المراسلين الذين تجمعوا بالقرب من سيارتها عند مقر الحكومة، واضطر ضباط الشرطة إلى منعهم بينما كانت رئيسة الوزراء الراحلة تجيب على أسئلة هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
جوردون براون كان أيضا متخوفا من المتظاهرين وقت إلقاء خطابه أمام دوانينج ستريت قبل سنوات طويلة، وكتب في مذكراته: "كنت مصمما على الإدلاء بكلمتي"، مضيفا أنه كان قلقا من ارتباك كلماته وسط ضحيج مروحيات التأمين في السماء، والصحافة وكاميرات التلفاز والمتظاهرين المناهضين لحرب العراق على الأرض.
واستعدادا لذلك، قال براون إنه أجرى محاكاة لإلقاء الخطاب وسط هذه الظروف، وتمرن عليه بهذه الطريقة، حيث كان اثنان من المقربين منه يوجهون الإساءة له ويتعمدون تشتيت انتباهه خلال التدريب.
داخل "داونينج ستريت"
وفق ما هو معتاد، من المنتظر أن يرحب موظفو مقر رئاسة الوزراء بالقائدة الجديد بالتصفيق، قبل أن يتصدر سكرتير مجلس الوزراء، وهو الدور الذي تشغله اليوم سيمون كيس، مظاهر الترحيب، وتتحدث مع تراس،
ومن المنتظر أن تلقي كيس إحاطة شاملة لتراس في أول يوم في داونينج ستريت، تغطي كل شيء من التعيينات الوزارية إلى المعلومات الاستخباراتية، وخياراتها للمناصب وترتيبات المعيشة.
ونظريا، لدى رئيس الوزراء الجديد ثلاثة خيارات لمكان العمل في داونينج ستريت. إذ كتب رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون في مذكراته: "كان لدى مارجريت تاتشر ما يسمى بمكان العمل، في الطابق الأول بجوار الدرج الذي يؤدي إلى شقتها رقم 10".
فيما "كان يفضل توني بلير ما أسماه (العرين)، في أسفل الدرج الرئيسي، وتم تبطين جدران هذا الموقع الذي كان يفضله رئيس الوزراء الأسبق للعمل ودراسة الملفات، بصور أسلافه".
أما براون فاختار شيئًا مختلفًا، إذ أسس في الطابق الأول ما يشبه قاعة التداول أو غرفة التحرير". فيما اختار كاميرون عرين بلير ولم يختلق غرفته أو موقع عمله المفضل في مقر رئاسة الوزراء.
كما أن لكل رئيس وزراء نمط عمل، إذ كان يبدأ كاميرون في الساعة 5.45 صباحًا كل يوم، ويمضي ساعتين في العمل على الأوراق التي قرر طاقمه أنها بحاجة إلى اهتمامه ووضعها في صندوقه الأحمر، ثم يجتمع مرتين يوميًا مع مستشاره جورج أوزبورن في الساعة 8:30 صباحًا و4 مساءً.
وغير معروف حتى الآن، نمط العمل ومكانه في عهد تراس، ومن المنتظر أن تعكف رئيسة الوزراء على ترتيب ذلك في أيامها الأولى.
وحول مكان المعيشة، تتمتع القائدة الجديدة وعائلتها بخيار العيش في شقة أصغر فوق "دوانينج ستريت 10": مقر رئاسة الوزراء، أو شقة أكبر فوق رقم 11 المجاور، على الرغم من تفضيل البعض عدم الانتقال إلى السكن في المكان على الإطلاق.
زوجة كاميرون ساماناثا "لم تقتنع بفكرة الانتقال إلى الشقة فوق رقم 10 أو تلك في رقم 11"، كما كتب زوجها في مذكراته، "لذلك عاد في أول ليلة كرئيس للوزراء، إلى بيته في نورث كنسينغتون".
لكن كاميرون أدرك في صباح اليوم التالي أن هذا يعني نقله من منزله لمكان عمله في موكب كبير كل صباح، وكتب عن ذلك، "شعرت وكأني الرئيس (روبرت) موغابي (رئيس زيمبابوي)".
ولم يقرر الزوجان كاميرون الانتقال إلى داونينج ستريت قبل نهاية الشهر الأول له في الحكم، و"أحضرا محتويات منزل العائلة بالكامل بما في ذلك أسرة النوم، إلى داونينج ستريت".
أما تراس، فستحتاج إلى استشارة زوجها المحاسب هيو أوليري وابنتيهما ليبرتي وفرانسيس، حول مكان العيش المنتظر وهل ينتقلان إلى داونينج ستريت 10 أو ١١.
ويمكن لعائلة رئيسة الوزراء الاستمتاع بشقة داونينج ستريت ١١ التي أعاد جونسون ترتيبها وغير ديكور وهيئة المكان على يد مصمم شهير، بتكلفة بلغت 140 ألف جنيه إسترليني.
ضغوط منتظرة
وبعيدا عن ترتيبات المعيشة ومكان العمل، تنتظر تراس كومة من الملفات والضغوط الكبيرة في أيامها الأولى كرئيسة وزراء بريطانيا، ولن يكون أمامها وقت يذكر للاحتفال بوصولها للمنصب الرفيع.
جون ميجور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كتب في مذكراته المنشورة عام 2010، إنه بمجرد أن دخل داونينج ستريت مع زوجته لأول مرة وسط تصفيق العاملين بالمقر، دعاه سكرتير رئاسة الوزراء لاجتماع، فترك زوجته تذهب منفردة إلى مقر المعيشة في الأعلى، ودخل المكتب لأن كان هناك قرارات بحاجة لحسم بعد دقائق فقط من تعيينه.
وهذا سيكون واقع تراس أيضا يوم الثلاثاء، خاصة بعد أن تحدثت تقارير عن أن جونسون انفصل ذهنيا بالفعل عن العمل منذ استقالته، حتى أنه خرج في إجازة صيفية مرتين خلال ٣ أسابيع، ما يعني أن هناك كثيرا من العمل ينتظر الحسم.
كما أن الانتقادات المتزايدة لعدم وجود خطة حكومية للتعامل مع ارتفاع تكاليف المعيشة وأزمة الطاقة، تعني أن تراس لن يكون أمامها أي وقت للراحة والاحتفال، وستبدأ العمل بعد تعيينها مباشرة.
خطابات "النووي"
المسؤولية الكبرى لرئيس وزراء جديد هي بالتأكيد "خطابات الملاذ الأخير" التي يجب أن يكتبها إلى قادة الغواصات البريطانية المسلحة من طراز ترايدنت في أماكن متفرقة، وتتضمن هذه الخطابات، التعليمات التي يجب على قادة الغواصات، اتباعها، إذا تم شن هجوم نووي على بريطانيا وقٌطعت جميع الاتصالات مع لندن.
ويصف ديفيد كاميرون هذه التجربة في سيرته الذاتية، إذ يقول: "يأتي قائد بحري كبير إلى مكتبك ليطلعك على الخيارات"، مضيفا "بعد ذلك تُترك بمفردك مع سلسلة من الرسائل البديلة، وتقرر التعليمات التي ستعطيها لقادة الغواصات".
وتابع "إنها اللحظة التي تعود فيها الجدية الكاملة لمسؤولياتك كرئيس للوزراء. لقد تحدثت مع جون ميجور حول النهج الذي اتخذه إبان حكمه حيال هذه التعليمات، وقررت ما اعتقدت أنه المسار الصحيح للعمل".
ومضى قائلا: "لكن رغم ذلك، جلست وحدقت في الكلمات الباردة على الصفحة، محاولًا تخيل السيناريو الذي يضطر فيه أحد قادة الغواصات إلى فتح إحدى رسائلي" في حال وقوع هجوم نووي.
مكالمات بلا نهاية
بخلاف ذلك، فإن الأيام القليلة الأولى لتراس، ستشهد تدفقا غير اعتيادي من المكالمات الهاتفية لقادة الدول والمنظمات حول العالم، بل يوصف تدفق المكالمات على رئيس الوزراء الجديد في بريطانيا بأيامه الأولى، بأنه "يكون بلا نهاية".
وعلى سبيل المثال، تلقى جوردون براون أول اتصال هاتفي من الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، جورج دبليو بوش، ثم قادة فرنسا وألمانيا وإيرلندا وإيطاليا، ثم جنوب أفريقيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والهند، والصين.
وبعد ذلك، جاء دور رؤساء المفوضية الأوروبية، والأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية.
aXA6IDMuMTQ1LjkyLjk4IA==
جزيرة ام اند امز