تُظهر المملكة المتحدة حماسة شديدة في الدفاع عن أوكرانيا ضد روسيا، تفوق بكثير ما يظهره الاتحاد الأوروبي.
ولعل العلامة الفارقة في الحماسة البريطانية هي إرسال أسلحة دفاعية وقوات تدريبية إلى أوكرانيا، في وقت ترفض الغالبية الساحقة من دول التكتل الأوروبي فعل ذلك، لأن هذا يشير إلى الاستعداد للحرب بشكل لا يقبل الشك.
المملكة المتحدة اليوم خارج الاتحاد الأوروبي، ولكنها ليست خارج القارة الأوروبية، هذا ما تحاول لندن قوله من خلال دعمها أوكرانيا، ولكن بكثير من المغالاة، أو لنقل بـ"نزعة إلى تشكيل قطبية تُناظر قطبية التكتل في القارة العجوز".
لسان حكومة المحافظين، التي يرأسها بوريس جونسون، يقول إن المملكة المتحدة تستطيع فعل الكثير بعدما تحررت من تحفظات الاتحاد الأوروبي، ولكن سقف هذا العطاء تحدده عوامل كثيرة، داخلية وخارجية.
لم تعد بريطانيا تحتاج إلى موافقة بروكسل في وهب دعمها لمن تشاء، ولم تعد تريد أيضا سوى موافقة برلمانها على إرسال أسلحة لمن تريد، أو إبرام اتفاقيات دفاعية أو تجارية أو سياسية مع أي دولة على الأرض.
حتى التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة، لم تعد المملكة المتحدة تشعر بأي حرج في إعلانه والمضي به إلى أبعد حد ممكن. ولن يصيبها أي خجل أو قلق من القول إن بريطانيا ماضية في مؤازرة التوجه الأمريكي نحو استعادة النفوذ الغربي في مناطق نفوذ الصينيين والروس في أي مكان وزمان.
للمملكة المتحدة أسباب "انتقامية" من موسكو في الدفاع عن أوكرانيا.
فالروس تسللوا إلى عقر دار الإنجليز وحاولوا تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال وابنته في سالزبري عام 2018.
كما لم تمض أشهر على تحذيرات رئيس الاستخبارات البريطانية الداخلية من تهديدات روسية على شكل هجمات إلكترونية تخريبية أو نشر معلومات "مضللة" أو التدخل في الشؤون السياسية للمملكة المتحدة.
المخاوف من استخدام روسيا الغاز الطبيعي كسلاح ضد الدول الأوروبية أيضا من دوافع بريطانيا في الوقوف بوجه تهديدات موسكو لكييف.. فالمملكة المتحدة تضررت بفعل نقص إمدادات الوقود الأزرق إلى القارة العجوز، ومن المتوقع أن ترتفع كلفة فواتير الطاقة فيها إلى نحو ألفي جنيه إسترليني سنويا بحلول شهر أبريل/نيسان المقبل.
ثمة منافع سياسية داخلية للموقف البريطاني من أوكرانيا، فرئيس الوزراء يعيش أسوأ مراحل حكمه بسبب الأزمات المتتالية لحكومته مؤخرا بسبب انتهاك قواعد الإغلاق، التي فُرضت على البلاد لمواجهة كورونا خلال العامين الماضيين، فضلا عما بات يُعرف بـ"حفلات الحكومة"، والتي تهدد مستقبل "جونسون" السياسي على نحو غير مسبوق ولم يعرفه طوال مسيرته، التي بدأها مع مطلع الألفية الجديدة.
لم تظهر نتائج التحقيقات المدنية وتحقيقات الشرطة في هذه الحفلات بعدُ، ولكن القلق من إدانة جونسون وموظفين حكوميين لم ينتهِ، وإن جاءت التقارير المرتقبة للمحققة سو جراي أو لشرطة ميتروبوليتان بدلائل على تجاوز قواعد الإغلاق، فإن تصويتا على حجب الثقة بقيادة جونسون للحكومة قد يوضع بسرعة كبيرة على طاولة "لجنة 1922"، التي تعتبر اليد الطولى في حزب المحافظين الحاكم.
وبغض النظر عن الفائدة المؤقتة لجونسون في شراء الوقت وتخفيف الضغوط عليه في قضايا "حفلات الحكومة"، لا يبدو أن موقف بريطانيا من الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا سيتغير، وذلك لما ينطوي عليه هذا الغزو -إنْ وقع- من مخاطر سياسية واقتصادية حقيقية، ومكاسب خارجية في الوقت ذاته.
عندما يتعلق الأمر بالمخاطر لا تستطيع المملكة المتحدة التخلي عن الاتحاد الأوروبي بأي حال من الأحوال، كما لا يمكنها النأي بالنفس من منطلق أنها لم تعد عضواً فيه.. فمصالح الطرفين متشابكة بشكل شائك جدا، وأي رصاصة قد تطلق في سماء دول التكتل الأوروبي سوف تتردد أصداؤها في كامل الفضاء البريطاني.
ولا تنتهي مخاوف البريطانيين، كما الأوروبيين والأمريكيين، عند إمكانية احتلال روسيا لأوكرانيا، وإنما تمتد إلى الإصرار الذي تمارسه روسيا في منع حلف الناتو من التوسع في دول الاتحاد السوفييتي سابقا، وقدرتها على بناء تحالفات عسكرية أو سياسية أو اقتصادية مع تلك الدول مستقبلا، ضد مصالح الغرب في القارتين الأوروبية والآسيوية.
قد يكون هناك هامش لاستفادة بريطانيا من التصعيد ضد روسيا على مستوى نسج علاقاتها الخارجية وتحالفاتها مع دول العالم بعد "تحررها" من الاتحاد الاوروبي، ولكن هذا الهامش قد لا يكون رحْبا كما تتخيل لندن.
ربما تحاول المملكة المتحدة أن تستغل الأزمة الأوكرانية، لتضع قدما لها في القارة العجوز كدولة مستقلة ولها القدرة على المنافسة عالميا.. فهي ذات عضوية دائمة في مجلس الأمن، وصاحبة ثامن أقوى قوة عسكرية وسادس قوة اقتصادية حول العالم.. لن يلومها أحد على ذلك، ولن يشكك بقدرتها في التفكير والتخطيط والمبادرة والتنفيذ، خاصة إنْ ظفرت بالدعم الأمريكي المطلوب.. آخذين بعين الاعتبار أن الرغبة في تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة إلى أبعد حد وفي جميع المجالات هي سبب رئيسي في التصعيد البريطاني ضد روسيا خلال الأزمة الأوكرانية الراهنة.
رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ بريطانيا، ونستون تشرشل، حرص كثيرا خلال وجوده في الحكومة على توطيد العلاقات مع أمريكا، وحتى في زمن الرئيس دوايت أيزنهاور، الذي لم يكن على وفاق معه، قام "تشرشل" بأربع زيارات رسمية لواشنطن خلال فترة ولايته الثانية في رئاسة الوزراء.
والحقيقة أن تحالف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة صنع الكثير للدولتين، وأحدث تغييرات كبيرة وجوهرية في أوروبا والعالم بشكل عام، وإحدى المقولات المأثورة لتشرشل هي: "اقرأ التاريخ، فهناك تكمن أسرار الحكم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة