هذه محاولة متواضعة لفهم ما يجري في عالم اليوم بما فيه من توترات خاصة في القارة الأوروبية.
حيث تبدو كما لو كانت تعود إلى سابق عهدها مرة أخرى، ليس فقط في زمن الحرب الباردة، وإنما أكثر من ذلك، في أزمنة سابقة للحرب العالمية الأولى ثم الثانية وما بينهما.
ببساطة نريد معرفة الحالة الدولية من أولها، ونقطة البداية هي أن نعرف ماذا نعني بالنظام الدولي.
والشائع في علوم العلاقات الدولية، هو أنها ترتكز على القوى العظمى وعلاقاتها، وتشكل المنظومة الرئيسية القادرة على الهيمنة ومد النفوذ، والمنافسة بالسلم أو بالحرب أو بالردع مع القوى الأخرى.
والشائع أيضاً أن توصف المنظومة الرئيسية بعدد الأقطاب فيها، فيُقال "النظام متعدد الأقطاب"، كما كان الحال ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو "نظام القطبين"، كما كان في أعقاب الحرب الثانية، حينما انفردت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالنظام الدولي. أو "نظام القطب الواحد"، كما كانت بريطانيا ما بين 1815 بعد هزيمة نابليون و1914 ونشوب الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وحتى عام 2008، عندما جرت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وهو العصر الذي سُمِّي "العولمة" شكلاً، أما في الحقيقة فقد كانت الولايات المتحدة هي القائدة العظمى الوحيدة في العالم.
فيا ترى ما الحال الآن، وكيف يوصف النظام الدولي؟
الإجابة المباشرة هنا، والتي سوف يجري التفصيل فيها، هي أن العالم لم يعد أسيراً لقوة عظمى وحيدة، لأن التحدي للولايات المتحدة بات كبيراً، كما أن العالم لم يعد متعدد الأقطاب، على عكس ما كان شائعاً أن اليابان والهند وأوروبا الموحدة سوف تدخل في منظومة التنافس على قيادة العالم وتوجيهه، ولكن العالم يدخل حثيثاً إلى منظومة ثلاثية القوى العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية.
السؤال الثاني المهم هو: كيف يتغير هذا النظام الدولي؟
وبداية الإجابة هي أن أقاليم العالم وظروفها التاريخية والجيوسياسية ليست متطابقة أو حتى متشابهة، ولكن تظل القاعدة الأساسية لها هي تحقيق توازن القوى، بكل ما يكفلها ذلك من أبعاد القوة الخشنة والناعمة والذكية.
العالم الآن، وفق وجهة نظر شائعة، بات ثنائيَّ القطبية بين الولايات المتحدة والصين، استناداً إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للبلدين يتقارب يوماً بعد يوم، وفي الوقت الراهن فإنه بالحساب استناداً إلى القوة الشرائية للدولار، فإن الناتج الصيني يتفوق على ذلك الأمريكي، وأخذاً بمعدلات النمو الراهنة، فإن الصين في طريقها إلى مزيد من التفوق، خاصة بعد الريادة في مجالات الثورة الصناعية التكنولوجية الرابعة.
النمط الذي يدور في تفاعلات القطبين يشير إلى تنافسهما، والولوج من المنافسة إلى الحرب التجارية والاستراتيجية في بحر الصين الجنوبي، والسياسية بالعقوبات الأمريكية على حلفاء للصين.
ولكن دورية الشؤون الخارجية الأمريكية، رأت الثنائية القطبية تدور في الإطار التاريخي المعاصر للعلاقات والتفاعلات الأمريكية الروسية، وجاء ذلك في العدد المجمع لمقالاتها والصادر في أبريل 2018، بعنوان "الحرب الباردة الجديدة: روسيا وأمريكا من قبل والآن". مجموعة الدراسات المنشورة تبدأ من بداية الحرب الباردة القديمة، التي جرى إشهارها فكرياً من خلال مقال "X"، الذي سطره السفير الأمريكي جورج كينان، في عدد يوليو 1947 بعنوان "مصادر السلوك السوفييتي"، والتي أعلن فيه انتهاء التحالف الأمريكي السوفييتي في أثناء الحرب العالمية الثانية، ودعا كبديل إلى اتباع استراتيجية تقوم على احتواء الاتحاد السوفييتي.
المقالات المختلفة المنشورة تعكس التطورات وفترات الصعود واحتدام الحرب الباردة، أو تخفيف التوتر، وعندما نشر هنري كيسنجر مقاله في يوليو 1959 بعنوان "البحث عن الاستقرار"، ونيكيتا خروتشوف، الذي نشر في عدد أكتوبر "عن التعايش السلمي"، كانت لحظات التعايش والوفاق الاستثناء على مسيرة طويلة من الحرب الباردة استمرت حتى انهار الاتحاد السوفييتي.
وعلى مدى عقد ونصف العقد تقريباً، وفي ظل انفراد الولايات المتحدة في العالم، فإن المقالات المنشورة ركزت على إنقاذ روسيا، والتعاون معها في إطار مجموعة الثمانية.
وفي عام 2002 ظهر العنوان "تجديد روسيا". ولكن شهر العسل هذا لم يستمر طويلاً، حيث تواصلت المقالات والدراسات التي تكشف ازدياد التوتر بين واشنطن وموسكو.
وفي عام 2006 كان العنوان هو "روسيا تترك الغرب"، وفي 2007: "خسارة روسيا وتكاليف استئناف المواجهة"، وفي 2008: "لماذا استقرار السلطوية (فلاديمير بوتين) خرافة؟"، وفي 2010: "مأزق التحديث في روسيا"، وفي 2011: "الدب المحتضَر"، و"كارثة روسيا السكانية"، وفي 2014: "إدارة الحرب الباردة الجديدة"، وفي 2016: "الجغرافية السياسية الدائمة لروسيا"، و"البحث عن مكانة روسيا المشروعة"، و"إحياء القوة العسكرية الروسية" -هذا بعد ضم روسيا للقرم، واحتكاكها بأوكرانيا، وفرض العقوبات الأمريكية عليها. وفي عام 2018، نشرت مجلة "الشؤون الخارجية" في عدد يناير/كانون الثاني: "احتواء روسيا مرة أخرى"، وفي عدد مارس/آذار: "هل بدأت حرب باردة جديدة؟".
دار الزمان دورته، وعادت الحرب الباردة من جديد بين موسكو وواشنطن، بينما كانت حرب باردة أخرى تجري بين واشنطن وبكين.. الأولى في جوهرها استراتيجي، مسرحها أوروبا والشرق الأوسط، والثانية تبدو اقتصادية تدور حول التجارة، ولكنها هي الأخرى استراتيجية حول السيطرة والنفوذ في العالم.. الحربان تدوران بين ثلاث قوى: الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تزال نظرياً القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، وروسيا التي أياً كانت حالتها الاقتصادية متواضعة فإن لديها أكثر من 9000 رأس نووية، تكفي لتدمير الكرة الأرضية مرات عدة، كما أن لديها مجالات متميزة للتفوق التكنولوجي في السلاح والفضاء، والصين التي ليست لديها قوة اقتصادية جبارة فقط، ولكنها أيضاً القوة الواعدة من حيث معدلات النمو والتكنولوجيات الحديثة، فلأول مرة في التاريخ البشري، أصبح بمقدور الصين منافسة أمريكا في بعض مجالات التطور التكنولوجي.
السؤال الثالث هو: إذا كان ذلك كذلك، فما الجديد في النظام الدولي الراهن؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة