أعاد تمرد وهجوم عناصر تنظيم داعش الإرهابي في سجن الصناعة بمدينة الحسكة السورية إلى أذهان السوريين قبل غيرهم، شبح مرحلة قاتمة من إرهاب هذا التنظيم طالت جميع مرافق حياتهم وأبسط عاداتهم وتقاليدهم.
وكاد إرهاب هذا التنظيم أن يمحو تاريخ شرائح من المجتمع السوري بأكملها، مثلما فتك إرهابه بكامل بنى ومؤسسات الحياة السورية في المناطق التي سيطر عليها.
في الذاكرة السورية الحيّة محطات لا تزال ماثلة في أذهان أولئك الذين عايشوا فترة إرهابه، أو أولئك الذين عاشوا تحت سطوة إجرامه مباشرة لأربع سنوات تقريبا.
في سياق تعزيز بطشه، ابتكر قوانين خاصة نابعة من فلسفته الهدامة الظلامية، التي أوجعت السوريين وتركت ندبا وجروحا في دواخلهم.
على المستوى السياسي، شكَّل تنظيم "داعش" منذ لحظة ظهوره في شرق البلاد منعرجاً خطيرا في مسار الأزمة السورية. بَنى نهجه على قواعد عدة عنوانها الأوحد هو "الإرهاب" القائم على القتل المباشر وقطع الرؤوس وتدمير أي كيان تعليمي أو مؤسسي أو اقتصادي أو عسكري أو قانوني في المدن والبلدات التي سيطر عليها.
أضاف عنصر تعقيد كبير إلى عناصر الأزمة السورية، حين استجلب عناصر إرهابية من أربع جهات الأرض لفرض سطوته وإجرامه، فأمعن في تعميق جروح البلاد والعباد.
الأخطر في مجريات وجوده المؤقت وسيطرته ما بين 2014 و2018 تمثل في توسيع دائرة إرهابه ضد جميع المكونات السورية، وفي المقدمة بنية الدولة السورية السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، والانتقال إلى تنفيذ جرائمه في عدد من المسارح الدولية، فتحولت أنظار الجميع، سوريين وغير سوريين، من سياق البحث عن مخارج للأزمة إلى التنسيق لمواجهة الإرهاب الداعشي الذي بدا أنه يتمدد في جسد مجتمعات كثيرة، وإلى إعداد خطط مواجهته وتطويقه والحد من انفلاته.
لقد فرض إرهاب تنظيم داعش معادلة قاسية على السوريين، من جهةٍ عمّق الأزمة وأخذ الجميع إلى خيارات بعيدة عن الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها، خصوصا طي صفحتها، ومن جهة أخرى فرض على المجتمع الدولي اتباع سياسات دفاعية ذاتية أحيانا على حساب دوره للإسهام في العمل لإنهاء الأزمة.
الإعلان عن هزيمة تنظيم داعش رسميا قبل بضع سنوات، رغم بقاء بعض خلاياه متخفية في جوف جزء من الصحراء السورية، أعطى بارقة أمل للسوريين جميعهم، بأن نهاية أزمتهم يمكن أن تكون في متناول اليد. تعززت آمالهم حين اتخذ الحديث عن توجهات عربية رسمية لإعادة العلاقة مع سوريا منحى عمليا بقرار الإمارات فتح سفارتها رسميا في العاصمة السورية، مرورا بمواقف إماراتية رسمية معلنة عن ضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وصولا إلى زيارة الشيخ عبدالله بن زايد، وزير الخارجية الإماراتي، إلى دمشق في نوفمبر من العام الماضي، وما تخلل تلك المرحلة من دعم سياسي واقتصادي لسوريا، وما رافق ذلك من تحول في المناخ العربي بغالبيته تجاه طي صفحة الأزمة السورية.
عودة إرهاب داعش إلى واجهة الأحداث في سوريا من خلال جرائم بعض خلاياه النائمة في الصحراء السورية وعبر هجومه في مدينة الحسكة، أحيت في ذاكرة السوريين قلقاً كانوا قد افترضوا أنهم تجاوزوه، متعلقاً بأمنهم وأمانهم. الطمأنينة النسبية التي يستشعرونها اليوم حيال حاضرهم ومستقبلهم لم تغادرهم بسبب تمرد عناصر داعش الإرهابيين، لكن الأسئلة عما حدث في مدينة الحسكة عادت إلى مجالس السوريين بصيغة قلقة حول حيثيات الحدث ومآلاته في آن معاً، وعن الأثر الذي قد يترتب عليه تجاه تطلعاتهم لتجاوز أزمتهم.
رغم تلك الهواجس، لا يغيب عن بال السوريين أن مسألة عودة تنظيم داعش وإرهابه لم تعد واردة بصيغتها السابقة بسبب عوامل عدة، منها داخلي يتمثل بأن الدولة السورية باتت أكثر قدرة على مواجهته ودحره، ومنها خارجي يؤكده تضافر جهود المجتمع الدولي لاستئصال هذا التنظيم ماديا ومعنويا، ومنها بنيوي متعلق بتضعضُع كيان داعش التنظيمي وتصدعه.
الرسائل التي أفرزها هجوم وتمرد عناصر تنظيم داعش الإرهابي في مدينة الحسكة، تتطلب التأمل الدقيق في مجريات الحدث وتبعاته على الواقع السوري أولا، وعلى مجمل المشهد الذي يفرضه بقاء جزء من خلايا هذا التنظيم الإرهابي برمته، لأنه سيفتح الباب مجددا أمام تكهنات متعلقة بمسألة التحضير للهجوم داخل السجن وخارجه، وهي النقطة الأهم في محاولة فهم ما حدث، وكيف حدث، ولماذا حدث.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة