مرّة كلّ عام، وفي شهر يناير تحديدًا، ينشغل العالم بعقابٍ ما بات يُعرَف بـ"ساعة يوم القيامة".
وهي مراجعة سنويّة تكشف عن مدى اقتراب الإنسانية من "الفناء" بفعل الأسلحة النوويّة حال تم استخدامها، ومدى القرب من وضع حدّ نهائيّ للكوكب الأزرق، الذي يعاني الآن أهوال التغيّرات المناخيّة، ما يعني أنّ أيّ انفجار نووي أو تصادم من هذا النوع يُدخِل البشرية في مرحلة ما يعرف بـ"الشتاء النووي"، والذي غالبًا ما سيكون الضربة القاصمة للأرض التي تئنّ وتتمخّض.
قصّة الساعة معروفة، وكيف اعتبرها العلماء بعد الحرب العالمية الثانية مقياسًا للخطر المحدّق بالبشريّة، وعقاربها تتحرّك عبر الدقائق الخمس المتبقّية قبل الفرصة الأخيرة وإغلاق باب الأمل والرجاء في النجاة.
مع نهاية عام 2021، وقفت مؤشّرات الساعة عند مئة ثانية قبل النهاية، أي قبل أن تسخن عقول البشر، وفي لحظة انفلات من الوعي تدخل الإنسانية دهاليز لا عودة منها.
ما الذي تعنيه بداية عقارب الساعة في هذه الآونة؟
حكمًا إنها رَجْع صدى لا يتلكّأ ولا يتأخر لأحوال الخليقة القلقة والمضطربة، حيث الفشل يعمّ أرجاء المؤسسات الدوليّة المنوط بها ضبط أمن وسلام العالم، وملاقاة الأخطار الوجوديّة بأفكار خلاقة تستنقذ الجميع من وهدة الهول الأعظم القابع خلف الباب منتظرًا أن يتسيد على النوع البشري.
أكثر من عامل حيوي يُقلِق الجميع على مصير "الكرة المعلّقة في الهواء"، بحسب الأقدمين، وربما في مقدمها الحرب الإيكولوجية، التي تتهدّد البشر والحجر، وقد تضحي عند لحظة بعينها أداة مساعدة في فتح هوّة التفاعلات النوويّة، بما يؤكّد فرضية الخطر الوجوديّ.
خذ إليك على سبيل المثال ما يحدث في أوكرانيا الآن، ذلك أن أكثر ما يقلق الروس والأوكرانيّين على حدّ سواء هو الاضطرار للدخول في مواجهات مسلّحة، ولو تقليديّة عبر منطقة تشرنوبيل، والتي انفجر فيها المفاعل النوويّ عام 1986، أي منذ 36 سنة، ولا تزال المنطقة مليئة بالإشعاعات القاتلة، ولا يُنتظَر أن يتلاشى أثرُها قبل بضع مئات من السنين، وعلى هذا الأساس فهي ليست خالية من الزرع والضرع فقط، بل يبدو الاقترابُ منها لكل كائن حيّ أمرًا قاتلاً ومأساويًّا.
السؤال الجوهري في هذه السطور: "هل عقارب هذه الساعة مرشّحة لما هو أكثر رعبًا في العام الجديد 2022؟
من أسف شديد يبدو ذلك كذلك، لا سِيّما في ظلّ المواجهة التي باتت مفتوحة على مصراعَيْها بين الولايات المتحدة الأمريكيّة والناتو من جهة، وبين روسيا الاتّحادية من جهة ثانية، ثم الصراع بين واشنطن وبكين، ناهيك بدخول دول جديدة إلى عالم حيازة الأسلحة النوويّة.
من أين يمكن للمرء توصيف الأخطار قبل تصنيفها؟
البداية حكمًا من عند القوّتَيْن النوويتَيْن الكبيرتَيْن في العالم: الولايات المتحدة الأمريكيّة وروسيا الاتّحاديّة.
بالنظر إلى واشنطن، يدرك المرء أن ترسانتها النوويّة على أهميتها وكثرة عددها، تبدو كأنّها تقادمت بشكل واضح، ذلك أن جلّها صُنِع خلال فترة الحرب الباردة، ورغم الصيانة المتجدّدة فإن هناك الكثير منها الذي يتوجّب إحالته للتقاعد خارج الخدمة النوويّة فعليًّا.
هنا من الواضح أنّ واشنطن لن تكتفي بما لديها، ولهذا تسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى خطة تنفق فيها البلاد تريليون دولار لتجديد أسلحتها النوويّة، برًّا وبحرًا وجوًّا.
تريلون دولار مبلغ هائل يعادل تقريبًا نصف الموازنة، التي رصدها ساكن "البيت الأبيض" لبرنامج إعادة تجديد شباب البنية التحتية الأمريكيّة، وربّما يزيد على النصف كذلك.
لا أحد يعرف على وجه الدقّة بالضبط ما أنواع وأشكال وأحجام الأسلحة النوويّة الجديدة التي تنتوي الولايات المتحدة صنعها، وهل تدخل فيها أسلحة حرب النجوم أو الكواكب، والخاصة بشبكة الليزر المرشَّح نشرها خارج إطار الغلاف الجويّ، وربّما البعض منها تمّ نشره، إضافةً إلى نماذج جديدة من الصواريخ الفرط صوتيّة المُجنَّحة، والجديد من الغواصات من طراز "فيرجينيا" وما بعدها، التي تحمل صواريخ نوويّة قادرة على الوصول إلى موسكو وبكين، ما يعني أنّ التهديد النوويّ الأمريكيّ للعالم صار حقيقة واقعة.
على أن الموضوعيّة تقتضي كذلك التوقف مع الأوضاع النوويّة في روسيا الاتّحادية، والتي تكشف يومًا تلو الآخر عن وجه من أوجهها النوويّة.
عمد القيصر بوتين خلال العقدَيْن الماضيَيْن على إعادة بناء الترسانة العسكريّة الروسيّة بشكل عامّ، والنوويّة منها بنوع خاصّ.
الذين يتابعون العمل الروسيّ المتسارع نوويًّا يدركون أبعاد التطورات الجديدة في مجال الصواريخ النوويّة الفرط صوتيّة، مثل صاروخ "تسيركون" الساحق الماحق الذي لا يُصَدّ ولا يُرَدّ، والذي تعجز أيّ قوّات دفاع جويّ على الأرض عن إيقافه، ومن هنا ربّما تأتي حاجة الولايات المتحدة إلى أسلحة الليزر في الفضاء.
من بين أخطر الصواريخ الروسيّة ذلك النوع المعروف باسم "سارامات"، الكفيل بتدمير بريطانيا دفعة واحدة، كما أنّ مداه يصل إلى الولايات المتحدة ويستطيع تدمير واحدة من كبريات الولايات مثل تكساس في ضربة واحدة.
وبحسب تقرير لصحيفة "الصن" البريطانيّة فإنّ سرعة "سارامات" تبلغ نحو 16 ألف ميل في الساعة، ويمكن تزويده بـ12 رأسًا حربيّة نوويّة، مما يعني قدرة الصاروخ على فعل ما لم تفعله أيّ صواريخ نوويّة من قبلُ.
في هذا الصدد، يقول الجنرال كاراكييف، قائد وحدة الصواريخ الاستراتيجيّة الروسيّة: "عندما يتوَصّلون -أي الغرب- للقاح مضادّ لصواريخنا فرط الصوتيّة، لا بدّ أن نكون سبقناهم بتطوير سلاح أسرع، وهذا ما نفعله اليوم، وهناك من غير أدنى شكّ المزيد من المفاجآت".
هل يمكن أن تمضي واشنطن وموسكو على هذا الدرب النوويّ من غير أن تسارع بكين إلى اللحاق بهما؟
كذلك تبدو الصين ومن غير مداراة أو مواراة القوّة المسلّحة الطاغية القادمة، ما يؤكّد أن السباق نحو الجحيم النوويّ عالميًّا ماضٍ قُدُمًا ومن غير أن يردعه رادع.
هل هناك مفاجآت نوويّة أخرى جديدة في الطريق؟
ليس سرًّا القول إنّ السعي الإيرانيّ الحثيث لحيازة السلاح النوويّ، وفي منطقة جغرافيّة مشتعلة تاريخيًّا، أمر يعني أن النوويّ سيكون أمرًا مطلوبًا ومرغوبًا من بقية دول المنطقة لإحداث توازنات الردع، وإلا اختلّ التوازن الإقليميّ دفعة واحدة، وهو سيناريو مُرجّح بامتياز في ضوء التلاعب الإيرانيّ بالمجتمع الدوليّ في هذا الملف.
على عتبات الصراع في أوكرانيا، يتساءل المرء قبل الانصراف: هل البشريّة تقترب من قدر مقدور في زمن منظور؟
لا يتمنّى المرءُ حدوثَ ذلك، وإن كان السيناريو حاضرًا وبقوّة، إلا ما رَحِم ربُّك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة