خلال شهر يناير 2022، شهدت النمسا وفرنسا مظاهرات حاشدة ضد قانون إلزامية التلقيح ضد كوفيد-19.
كانت النمسا هي أول دولة في الاتحاد الأوروبي تصدر قانوناً بفرض التلقيح على كل من تجاوز عمره 18 عاماً، فيما عدا السيدات الحوامل ومن لديهم موانع طبية، وفرض عقوبة مالية على المخالفين تصل إلى أكثر من أربعة آلاف دولار.
وفي فرنسا، أقر البرلمان قانوناً يقضي بضرورة حمل شهادة تطعيم، كشرط لدخول دور السينما والمسرح وحضور الأنشطة الترفيهية والمباريات الرياضية ودخول المطاعم واستخدام القطارات ووسائل النقل العام بين المدن.
وفي الشهر نفسه، أصدرت المحكمة العليا -أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة- حكماً بوقف تنفيذ قرار إدارة الرئيس بايدن بإلزام الموظفين العاملين في الشركات التي توظف أكثر من مئة موظف بتلقي اللقاح.
أما الذين لم يتلقوا اللقاح، فعليهم الالتزام بارتداء الكمامة وإجراء اختبارات الكشف عن المرض مرة أسبوعياً على نفقتهم الخاصة.
وجوهر الموضوع في هذه الحالات واحد، وهو العلاقة بين حقوق الأفراد في التمتع بحرياتهم الشخصية من ناحية، وحق الدولة في التدخل لتنظيم هذه الحريات لاعتبارات الصحة العامة وسلامة المجتمع من ناحية أخرى.
المناصرون لتدخل الدولة ينطلقون من وقائع وبيانات ثابتة. منها أنه في أمريكا، أودى المرض بحياة أكثر من مليون شخص، وفي فرنسا ارتفعت أعداد الإصابات بالمرض، ووصلت في بعض أيام شهر يناير الجاري إلى قرابة 500 ألف شخص. وأنه من الثابت في كل دول العالم أن الأشخاص الذين لم يتلقوا اللقاح يكونون أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.
لذلك، فإن تدخل الدولة لفرض تلقي اللقاح يصبح جزءاً من مسؤوليتها تجاه حماية المجتمع وسلامة المواطنين.
ويعتبر هؤلاء أن هذا التدخل هو استمرار للإجراءات الاحترازية التي فرضتها الحكومات في العامين الماضيين، والتي قيدت من الزيارات الاجتماعية ومن عدد أفراد الأسرة الواحدة الذين يجوز لهم اللقاء في مكان واحد. وغير ذلك من قيود على سلوك الأفراد.
أما الرافضون لهذا التدخل، فإنهم يعتبرونه اعتداء على حرياتهم الشخصية ويستندون إلى حجج مختلفة.. منها ما ردده المتظاهرون في شوارع باريس من أنهم "يدافعون عن الحريات التي نص عليها إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الجمعية الوطنية في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789"، وأن مثل هذا التدخل "يُعتبر خروجاً عن مبادئ الحرية التي طالما دافعت عنها الدولة الفرنسية".
وفي أمريكا شكك الرافضون في وجود نص دستوري يسمح للإدارة الأمريكية باتخاذ مثل هذا الإجراء، وفرض سلوك بعينه على المواطنين، وهو ما ظهر في حيثيات حكم المحكمة. فقد أشار الحكم إلى أن الوكالة الفيدرالية للسلامة والصحة المهنية التابعة لوزارة العمل، التي أصدرت هذا القرار، لا تملك السند الدستوري لإصداره، وكما ذكر رئيس المحكمة فإنه "لا توجد سابقة لاتخاذ مثل هذا القرار من جانب السلطات الفيدرالية في تاريخ أمريكا، لأن هذا الاختصاص منوط بكل ولاية على حدة".
وإذا أردنا أن نضع هذا الجدل في سياق أكبر، فإن القضية الرئيسية تتعلق بمفهوم الحرية، والخلافات في أمريكا وأوروبا بشأن تعريفها بين التيارات اليمينية، التي "تضع الفرد قبل المجتمع وتعتبر أنه لا ينبغي أن توضع حدود على ممارسته حريته"، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن يكون الرئيس ترامب من أوائل من أشادوا بالحكم الذي أشرت إليه.
وبين أنصار التيارات الليبرالية الاجتماعية التي ترى الفرد في إطار المجتمع، وتعتبر أن ممارسته لحريته ينبغي أن تكون محكومة بذلك، بل يرى أنصارها أنه لا يوجد ممارسة للحرية خارج المجتمع، فمظاهر الحرية تبدو في سياق علاقة الفرد بغيره من الأفراد.
لقد كتب "فولتير" أن من حق كل إنسان التمتع بحريته، ولكن هذه الحرية تنتهي عند النقطة التي تبدأ فيها حريات الآخرين، وهذا هو بيت القصيد. فصحيح أنه من حق كل فرد أن يختار ما إذا كان يريد تلقي اللقاح أم لا، لكن المؤكد أنه ليس من حقه أن يكون حاملاً للمرض وينقله الى الآخرين في الأماكن العامة. فكل واحد حر في مسلكه طالما أنه لا يضر بالآخرين.
الحرية والمسؤولية هما وجهان لعملة واحدة، فالحرية هي القدرة على تحمُّل المسؤولية، وأن يكون الإنسان مسؤولاً عن نتائج أفعاله.
وكم من الخطايا تُرتكب باسم الحرية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة