لا أحد يُجادل في أنّ جماعة الإخوان دخلت مرحلة الانهيار التنظيمي منذ أكثر من 10 سنوات وأنها مستمرة في هذه المرحلة لــ10 سنوات مقبلة، فباتت هذه المرحلة علامة دالة على وجود التنظيم وتلاشيه في الوقت نفسه.
حُكمنا على وجود الإخوان من عدمه ليس مرتبطًا بالمواجهة الأمنية والعسكرية، رغم أهميتهما، ولكن على ما تحقق من المواجهة الفكرية القائمة على تفكيك أفكار التنظيم المؤسسة؛ صحيح تبدو هذه الأفكار متيبسة الآن، وهي علامة أخرى على الزوال والتفكك، ولكن ما نود قوله إن تفكك مثل هذه الأفكار يأخذ مزيدًا من الوقت والجهد، الأمر ليس سهلًا، ولكنه ليس مستحيلا أيضًا.
نجحت جماعة الإخوان منذ نشأتها في مارس/آذار من عام 1928 في أن تخلق لنفسها بؤرًا وجودية في عدد من الدول العربية وغير العربية، ولعبت على التناقضات التي دفعت البعض منها لخلق حالة من التوازن بينها وبين تنظيمات أخرى أكثر تطرفًا؛ فبعيدًا عن خطأ توجه هذه الدول فإنّ هذه الحالة صنعت وجودًا أكبر للتنظيم قارب الـ100 عام حتى الآن.
وهنا نستطيع القول، إن التنظيم مكن لوجوده في عدد من الدول العربية ولا يزال بسبب نجاحه في استغلال هذه الحالة مع الأوضاع السياسية المتحولة في منطقتنا العربية، وهنا تبدو أهمية البعدين الإقليمي والدولي في المواجهة، فلا يمكن لدولة واحدة أو دولتين مواجهة هذا التنظيم، حيث تكون هذه المواجهة فاقدة للتأثير، بل لا بد أن تكون المواجهة ذات بُعد إقليمي ودولي حتى تكون نتائجها أكثر حسمًا.
وهذا ما يمكن استخلاصه من نتائج خلال تجارب المواجهة الأخيرة للتنظيم، فلا يمكن لتجربة أن تكون ذات أثر إلا إذا كانت مربوطة بسياقها الإقليمي والدولي، وأن تتعدى هذه المواجهة الإطار المحلي الضيق، خاصة أن التنظيم عابر في خطره الحدود والقارات ولذلك لا بد أن تكون المواجهة على قدر هذا الخطر.
تعرض التنظيم لإخفاقات كثيرة ربما خلال الــ10 سنوات الأخيرة سواء على مستوى الفكرة أو التنظيم، وربما تعرض لحالة من الانكسار فكانت هزائمه النفسية كبيرة في مصر حيث خرجت قياداته طريدة شريدة إلى لندن وإسطنبول، وعليها تهدم مركز قيادة التنظيم في القاهرة ربما للمرة الثانية بعد أن تعرض لهذه الصورة من المواجهة في الستينيات من القرن الماضي فعاد مرة أخرى بعد انتهاء حقبة الرئيس جمال عبد الناصر.
لا يوجد شيء تعلمه الإخوان من مرشدهم الأول حسن البنا أكثر من المراوغة؛ ولا يمكن مواجهة التنظيم دون فهم هذه الصفة التي تأصلت في كل قيادات وأفراد الإخوان؛ فلا يمكن أن تكون عضوًا في التنظيم أو مسؤولًا دون أن تمتلك هذه الصفة، فهي التي تُعلي من وجودك التنظيمي ومن توليك للمسؤوليات داخل التنظيم أيضًا.
ولذلك كلما كنت مراوغًا كان لك حظ في قيادة التنظيم؛ هذه الصفة التي عاش بها هذا التنظيم عقوده العشرة الأخيرة، وبها فقد ما نجح في تحقيقه على الأقل خلال العقد الأخير وتحديدًا ما بعد عام 2011؛ وهنا يمكن القول، إن صفة بقاء التنظيم هي نفسها صفة انهياره.
رسم المؤسس الأول حسن البنا خط المراوغة للتنظيم في سنوات ميلاده الأولى، وهو ما سار عليه مرشدو التنظيم وقادته فيما بعد وهو ما انتهى إلى تفكك التنظيم بعدما قارب عمره الـ100؛ فالجماعة التي قامت على أكتاف حسن البنا الذي كان يعمل معلمًا ابتدائيًا سقطت على يد محمد مرسي، الذي تولى منصب رئيس الجمهورية، فعلى قدر الصعود كانت النهاية.
فالجماعة التي حاولت الوصول للسلطة على مدار 100 عام سقطت في عام واحد عندما وصلت إلى سدة الحكم في مصر، وهذا يُوضح ضعف التنظيم وضعف الأفكار التي يقوم عليها؛ وجود التنظيم دائمًا يكون مرتبطًا بضعف من يواجهه، وربما طريقة عمل التنظيم، حيث نجح في التسويق لنفسه على أنه تنظيم رباني وأنّ كل منتسبيه بالمفهوم الشعبي المصري الدارج "بتوع ربنا" فخلق نوعًا من الحماية له ولأعضائه من خلال إخافة منتقديه وخصومه.
حسن البنا تعامل بذكاء ودهاء في مراحل النشأة الأولى حيث عرف التنظيم بأنه جمعية تهدف إلى التمسك بالدين وأخلاقياته ولم يقترب من السياسة إلا في عام 1938 أي بعد 10 سنوات كاملة من النشأة، حيث اطمأن الرجل إلى وجود عدد كبير من الأتباع حوله، وفي عام 1933 انتقل من محافظة الإسماعيلية التي شهدت الولادة الأولى للتنظيم إلى القاهرة، وهذا له مردود كبير على انتشار الجماعة الوليدة أفقيًا، ولكن مردوده الأهم هو سرعة سقوط هذا التنظيم.
لا أحد يُنكر أن التنظيم عاش فترة طويلة من حياته على جهل المجتمعات التي نشأ فيها؛ فقد نجح في إقناع هذه المجتمعات بأنه حركة اجتماعية دعوية لا تهتم سوى بالأخلاق والدين والآداب العامة، ونفى أي علاقة له بالعنف، كما أنه حاول إقناع الأنظمة العربية وبعض النخب والمثقفين والسياسيين بأنه يمكن التواؤم والتعايش معه وأنه قابل للتغيير حتى امتد وجوده الزمني لعشرة عقود.
الإخوان تنظيم براغماتي تُحركه المصالح، وليس لديه مانع من المراهنة على بعض القيم التي يؤمن بها مقابل أن يُحقق مكاسب ترتبط ببقائه، وهذا مدخل جديد لفهم التنظيم، وهنا أيضًا لا بد أن تكون مواجهة التنظيم البراغماتي ببراغماتية كلها لا بد أن تصب في مساحة المواجهة.
كما لا بد من إتاحة مساحة أكبر للمواجهة الفكرية والتبشير بها بعد إقناع المؤمنين بهذه المواجهة على شكلها وهيئتها ذات المغزى الفكري، كما أنّ مراكز الدراسات والأبحاث مدعوة لإعادة قراءة التنظيم قراءة دقيقة تكون مبنية على الفهم القائم على التحولات الأخيرة التي مسّت التنظيم، كما لا بد للباحثين المعنيين بمواجهة الظاهرة أن يقدموا إسهاماتهم في هذه المساحة المهمة حتى يشهد إتمام قرن على التأسيس انتهاء التنظيم مع تفكك أفكاره المؤسسة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة