اللقطة الأخيرة للإخوان.. كيف دخلت الجماعة غرفة مونتاج العقل الأمريكي؟

الفيلم يبدأ في لوس أنجلوس، لكن الملاحظة الأخيرة تأتي من التنظيم الدولي. فلسنا أمام مشهد سينمائي، بل أمام عملية "مونتاج ثقافي" تُدار بهدوء ودهاء.
تقول الكاميرا: أكشن. فترد الجماعة: دعونا نعدّل السيناريو أولًا. تلك ليست مبالغة، بل خلاصة ما تكشفه ديبورا ويس، المحامية والباحثة الأمريكية، في دراستها "Islamist Influence in Hollywood".
لا رصاص ولا تفجيرات ولا صخب شعارات. ما يحدث هو اختراق ناعم، تمارسه جماعة الإخوان المسلمين داخل الصناعة الفنية الأضخم في العالم، حيث تتحوّل الكاميرا من أداة فنّ إلى أداة دعوة... ومنصة لبث سردية مشفّرة.
هكذا لا تُكتَب الحكايات فقط، بل يُعاد كتابتها، ويُعاد ترتيب أبطالها، ويُعاد تعريف الشرّ والخير، وفق عين أيديولوجية تلبس نظارات سينمائية.
رواية تُكتب من خلف الستار
لا تحتاج الجماعة إلى دبابة لتسيطر على العقول، ولا إلى خطاب ملتهب كي تغيّر القيم. بحسب ويس، فإن جماعة الإخوان تمارس ما تصفه بـ"عمليات التأثير الناعمة"، حيث تصبح السينما والتلفزيون ومنصات الإعلام، أدوات لخدمة سردية تسعى إلى إعادة تعريف الجماعة في المخيلة الغربية، لا باعتبارها تيارًا عقائديًا متشددًا، بل كممثل للتسامح والاعتدال. الهدف؟ غسل ذاك الربط القديم بينها وبين العنف، وتقديمها في هيئة الضحية المغلوب على أمرها.
لكن هذه العمليات لا تمر عبر صالات التحرير أو مؤتمرات النقاش المفتوح، بل تجري خلف كواليس الإنتاج، عبر واجهات مدنية وحقوقية، بعضها يظهر كمنظمة ثقافية، وبعضها الآخر كهيئة حقوقية أو منصة لتعليم السيناريو و"محو الصور النمطية". هناك، تُعاد كتابة الحكايات، وتُمنح الشخصيات أسماء جديدة، وتُحذف مشاهد، وتُضاف أخرى، كل ذلك من أجل تمرير الرسالة بسلاسة لا تثير الشك.
هندسة التأثير من الداخل
لا تتحدث ويس من فراغ. فهي تشير إلى وثيقة داخلية خطيرة بعنوان "المذكرة التفسيرية"، تعود لعام 1991، أعدّها قياديون من الإخوان في أمريكا، وقد قُدّمت لاحقًا كدليل إدانة في قضية "مؤسسة الأرض المقدسة" المتصلة بتمويل الإرهاب. تقول الوثيقة بوضوح غير قابل للتأويل:
"مهمتنا في أمريكا هي تدمير حضارتها من الداخل، بأيدي أبنائها، وبمساعدة المؤمنين، حتى تسود شريعة الله".
كلام لا يُطرح كمجرد حلم طوباوي، بل كخطة عمل تُنفذ عبر أدوات دقيقة: تشكيل تحالفات مع تيارات اليسار، اختراق الإعلام، التأثير على التعليم، والوصول إلى النخب الثقافية.
ثلاثي التأثير.. دراما بلا مقاومة
في تفكيكها لآليات "الاختراق الثقافي"، تُحدد ويس ثلاث أدوات رئيسية تستخدمها الجماعة:
1. الرقابة الناعمة:
لا يُسمح بظهور الجماعة في صورة سلبية. وإذا حدث، تُطلق حملات تصف العمل بـ"العنصري" و"المشوّه لصورة المسلمين"، رغم أن النقد غالبًا ما يستهدف سلوكًا أو فكرًا سياسيًا، لا عقيدة دينية. الشكوى تتحول إلى ضغوط، والضغوط إلى حذف وتعديل.
٢. التضليل المعلوماتي:
تُقدَّم الجماعة للمؤلفين والمنتجين على أنها حركة إصلاحية، عبر ورش عمل واستشارات مغلفة بالابتسامة والانفتاح، لكنها تُخفي وراءها خطابًا أيديولوجيًا صارمًا. وهكذا، لا يعود الجمهور يرى الإخوان كتيار سياسي، بل كأبرياء يُساء فهمهم.
2. الاختراق المؤسساتي:
شباب تم تدريبهم وتأهيلهم وتقديمهم لصناعة الترفيه الأمريكية، يظهرون كمبدعين موهوبين، بينما يحملون في جيوبهم سردية جاهزة تُعاد بثها على هيئة فيلم أو مسلسل أو وثائقي.
هوليوود.. بلا أسوار
ولا يقتصر الأمر على الأفلام الوثائقية أو السياسية. بل يتسلل التأثير إلى الكوميديا، والدراما العائلية، وحتى أفلام الأطفال. ترصد الدراسة أمثلة صارخة، منها:
• تغيير هوية الإرهابي في فيلم أكشن من عضو في جماعة الإخوان إلى نازي من أستراليا.
• حذف مشاهد ذات دلالات دينية في سياق عنيف.
• إلغاء مسلسل بالكامل لأنّه يتناول فتاة أمريكية تعيش وسط أسرة إخوانية في بلد عربي.
الضغوط لا تأتي من الداخل الأمريكي فقط، بل من تهديدات دولية بالمقاطعة، وحرمان الأفلام من العرض في بلدان ذات أغلبية مسلمة.
إعادة تدوير الضحية
تعتمد الجماعة – كما تصفها ويس – على ارتداء عباءة "الضحية الدائمة"، فتتحول إلى منبر يستدر العطف ويُقصي النقد. أي عمل فني يقترب من بنية الإخوان، يُتهم بالإسلاموفوبيا، حتى لو كان مجرد تحليل سياسي أو تفكيك لفكرة تنظيمية. هكذا، تُغلق المساحة أمام الحوار، ويُكمّم النقاش، ويصبح مجرد السؤال شبهة.
وتوضح الكاتبة أن هذه المقاربة لم تكتف بتكميم أفواه غير المسلمين، بل امتدت لقمع المسلمين الإصلاحيين أنفسهم في بلاد المهجر، ممن يتجرؤون على انتقاد الإخوان، حيث يُرمون فورًا بتهمة "خيانة الإسلام"، وكأن الدين حكر على الجماعة دون غيرها.
الثقافة بمقاييس تنظيمية
الفن بالنسبة للإخوان ليس ميدانًا للجمال أو التعبير، بل ساحة نفوذ سياسي. هكذا تَخلص ديبورا ويس في دراستها. كل منصة ثقافية – من مهرجان مستقل إلى محاضرة جامعية – يمكن أن تُستثمر في معركة سردية تخدم التنظيم. التمكين لا يتم فقط عبر الأفلام، بل في نوعية الأعمال التي تُمنح التمويل، وتلك التي تُمنع من العرض، والمحتوى الذي ينجو من الرقابة، وذلك الذي يُمنع بحجة اللياقة الثقافية.
النتيجة: فضاء ثقافي يبدو متنوعًا، لكنه في الواقع محكوم بسردية واحدة، تُجمّل صورة الجماعة، وتُقصي خصومها.
جمهور بلا بوصلة
الأخطر، كما تؤكد الكاتبة، أن جيلًا كاملًا من الشباب الغربي نشأ على هذه السردية المشوشة، التي لا تفرّق بين الدين كعقيدة، والتنظيم كأداة سياسية. أصبحوا يرون الإخوان كمجموعة إصلاحية، لا كحركة ذات أذرع متشابكة في مناطق النزاع، ولا كتنظيم تربطه صلات فكرية وتنظيمية بجماعات أكثر تطرفًا.
ومتى انتقلت هذه السردية إلى دوائر صنع القرار، فإن النتيجة لم تعد مجرد صورة مغلوطة، بل ثغرات أمنية وفكرية، تعيق فهم الواقع وتمنع التعامل مع مخاطره.
حرية التعبير لا تعني تسليم الرواية
في الختام، لا تصرخ ديبورا ويس ضد الإسلام، ولا تُحرّض على ثقافة الآخر. بل تطرح سؤالًا بسيطًا وعميقًا:
هل يمكن أن نحمي حرية التعبير، بينما تُخنق الرواية البديلة؟
هل يُسمح بالاختلاف، حين تتحول سردية واحدة إلى معيار أخلاقي يُحاسب الجميع عليه؟
فالمجتمع الذي لا يملك القدرة على مساءلة روايته، سينتهي إلى تصديق كل ما يُعرض عليه.
وهكذا... تتحول الشاشة من نافذة على العالم، إلى مرآة تُعيد بث ما يريد الآخر أن نراه.