من الأهمية بمكان قبل أن نبدأ هذا المقال أن نعيد التذكير ببعض المفاهيم الثابتة عن جماعة (الإخوان المسلمين).
هذه الجماعة عبارة عن مجموعة من (الأفراد) يؤمنون بأفكار معينة ومنضمون معاً في وعاء تنظيمي يحملها للأجيال التالية عبر عملية (تجنيد) يطلقون عليها الدعوة الفردية، ثم يتم غرس (الأفكار الإخوانية) لهذه الأجيال عبر عمليات التربية أو (التوريث) على أن تتم من داخل التنظيم أو (الوعاء).
هذه الأفكار ثلاث حزم، الحزمة الأولى: أفكار ماضوية إسلاموية بحتة، أشهرها "إعادة الحياة الإسلامية للمجتمعات العربية" وفكرة "إعادة منصب الخلافة كأساس للحكم" وفكرة "الاستعداد لسيادة وأستاذية العالم"، والحزمة الثانية: أفكار تبرر وجود الجماعة في حياة المسلمين، وأشهرها "ضرورة العمل في جماعة" وفكرة "الجماعة الناجية التي تحمل الإسلام كما حمله الرسول والصحابة" وفكرة "أن مهمة الجماعة أو الفرقة الناجية هي إيجاد الفرد المسلم والمجتمع المسلم والدولة الإسلامية"، أما الحزمة الثالثة: فهي أفكار تنظيمية أشهرها "السمع والطاعة" وفكرة "حتمية انتصار هذه الجماعة" وفكرة "البيعة أو الموت على جاهلية" هذه ليست كل أفكار الجماعة ولكن أشهرها وأكثرها مركزية.
تأسيساً على ما سبق نؤكد أن الجماعة هي (أفراد) تؤمن (بأفكار) يجمعهم (تنظيم)، قد تتعرض الجماعة لأزمة في أعداد الأفراد كأن يخرج منهم عدد كبير، وبالتالي يضعف التنظيم، هنا تقوم الأفكار بحماية الجماعة عن طريق مضاعفة تجنيد آخرين وإقناعهم بأفكار الجماعة ومن ثم تعويض الفاقد البشري الإخواني، مثل ما حدث في الإسماعيلية مع المؤسس حسن البنا.
وقد يحدث العكس كأن تعرضت الأفكار للهجوم ويتم كشف زيفها، هنا يقوم التنظيم والأفراد بعقد لقاءات وضوح رؤية لترميم الأفكار من جديد أو إعادة صياغتها مثل ما حدث في الستينيات عندما غير الهضيبي فكرة العمل المسلح، أو قد يتعرض التنظيم للانشقاق والخلافات الداخلية فتقوم الأفكار بمهمة ترميم التنظيم بالزعم أن العمل لله وللإسلام ويجب السمع والطاعة لولاة الأمر، كما حدث مع البنا والهضيبي، ومع مصطفى مشهور في أزمة حزب الوسط، هذه العلاقة الثلاثية تتم تحت لافتة الإخوان المسلمين سواء في صورتها القانونية أو في صورتها الشعبية المحظورة قانوناً.
واستمرت الجماعة متحصنة بأفرادها وأفكارها وتنظيمها حتى صباح 30 يونيو 2013، عندما تعرضت الجماعة لأكبر تهديد وجودي مر عليها في تاريخها كله، بعد هذا التاريخ وبعد المقامرة الكبرى وتجمع الإخوان في "ميدان رابعة" وبعد الفض واجه الإخوان شبح فنائهم، فالتهديد كان لأول مرة على جميع المحاور الثلاثة في نفس التوقيت، فبعد الفض فر العديد منهم خارج مصر وتخلى الكثير منهم عن التنظيم، ونشبت الصراعات على زعامة التنظيم وسقطت كل الأفكار والمزاعم التنظيمية، ولم تصمد أمام التحدي الجديد، وأصبح الوعاء الذي يضم الأفراد مهدداً بالانتهاء، كما أن الأفكار المؤسسة للجماعة سواء التي تشرع لوجودهم أو الماضوية ذاتها أصبحت على المحك، وانتهت التجربة الإخوانية وبتحقيق غايتهم الكبرى في الوصول للحكم، فتكشف للجميع أن كل الأفكار التي يدعون لها غير قابلة للتحقيق وساذجة وانصرف عنها الاسلاميون قبل العوام، وبالتالي أصبح التهديد الثلاثي يحوط الجماعة من كل جانب فماذا كانت تدابيرهم للهروب من المصير المحتوم؟
أول خطوة اتخذها الإخوان كانت البحث عن وعاء تنظيمي بسيط يحمل أفكارهم بشكل مؤقت لحين توفر الفرصة لتعافي التنظيم الأساسي صاحب الفكرة، وأن يعود إلى مكانته الطبيعية ويستلم أفكاره وقيادته للجماعة فكراً وتنظيماً وأفراداً، فاجتمع قادة التنظيم الدولي وأسسوا "منتدى كوالالمبور" وأعلنوا أن هدفه هو مناقشة عمليات البعث الحضاري للأمة الإسلامية، ليعمل بعيداً عن صراع الجماعة مع الأنظمة الحاكمة، وبعيداً عن صراع قادة التنظيم مع بعضهم، وفي دولة بعيدة عن المركز لهم، وجمعوا لهم الشخصيات الإخوانية من جنسيات عربية وإسلامية مختلفة، من الذين لم ينخرطوا في أي خلافات فكرية أو تنظيمية، وتمت صناعة المنتدى كـ "ماكيت" مصغر للجماعة، فالمنتدى ليس مجرد عمل فكري يمكن أن يشارك فيه أي مسلم مشغول بعملية البعث الحضاري، بل له أعضاء حسب لائحتهم المنشورة على موقعهم، والشرط الوحيد للعضوية هو موافقة الأعضاء المؤسسين، ولم يشترطوا مؤهلاً أو إنتاجاً فكرياً، في محاكاة واضحة لتنظيم الإخوان.
المنتدى تمكن من عقد 6 مؤتمرات، سخّرها للدفاع عن أفكار الإخوان، فالمؤتمر الأول الذي عقد في كوالالمبور عام 2014، كان تحت عنوان الدولة المدنية - رؤية إسلامية، أما المؤتمر السنوي الثاني عام 2015 بماليزيا تحت عنوان دور الحرية والديمقراطية في تحقيق الاستقرار والأمن، والمؤتمر السنوي الثالث في الخرطوم عام 2016 تحت عنوان "الحكم الراشد وأثره في تحقيق النهوض الحضاري"، والمؤتمر السنوي الرابع في إسطنبول عام 2018 تحت عنوان الانتقال الديمقراطي: الأسس والآليات، والمؤتمر السنوي الخامس فتم عقده في كوالالمبور في 2019 تحت عنوان "دور التنمية في تحقيق السيادة الوطنية" وآخرهم المؤتمر السادس الذي عقد في إسطنبول.
كان المؤتمر السادس كاشفاً لحقيقة الأفكار التي يحملها المنتدى، والأسئلة التي طرحها للإجابة عنها فقد كانت بمثابة إعادة إنتاج أفكار "حسن البنا"، وكانت في مجملها مجموعتين من الأسئلة؛ المجموعة الأولى أسئلة وجودية للحالة الدينية والإسلامية، مثل: سؤال "بناء الإنسان والأسرة والمجتمع المسلم المعاصر" في عصر تعدد وتلاقح وتداخل واختراق الهويات العالمية القوية بوسائلها وأدواتها، والمُجابهة للإسلام بشكل عنيف، والعاملة على اجتثاثه من الأرض، وهو سؤال الإجابة عنه "بإقامة الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والدولة الإسلامية"، وهي ذات أفكار حسن البنا والإخوان، أو سؤال "بناء الدولة، وتقديم نموذج إسلامي معاصر للحكم يناسب المعطيات المحلية والعالمية، وقابل للتحول إلى كيانات إقليمية قابلة لإعادة الوحدة والأمة الإسلامية العالمية"، أو سؤال "كيفية بناء جيل جديد يتجاوز الجيل القديم الذي ولد وتربى ورضع لبن ومفاهيم الاستبداد والتعايش والتكيف معه، واكتفى بهدف مجرد المحافظة على الوجود الضعيف المهين باعتباره نجاحاً كبيراً له" أو سؤال "المشروع الإسلامي البديل للنظام العالمي المعادي لله تعالى ولرسالته السماوية وأولها الإسلام، ووجوب وحتمية أن نمتلك مشروعاً فكرياً إسلامياً معاصراً خالصاً لتحرير وتنمية ونهضة الأمة الإسلامية"، وكلها أسئلة تصب في الحزم الثلاث لأفكار الإخوان.
ثم كان السؤال الأهم في تلك المجموعة هو سؤال: "التحرر من التنظيمات الدينية التقليدية التي تحولت تدريجياً على مدار القرن الماضي إلى تنظيمات وظيفية تدور في فلك وأجندة النظم القومية المحلية والنظام الدولي المعادي للإسلام"، والمقصود هنا ضرب الأزهر في مصر وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أو غيرها من المرجعيات الدينية الرسمية، والوصول إلى أشكال جديدة من العمل المؤسسي الإخواني، الذي يصفونه بالعمل الناضج القادر على مجابهة محاولة الاستيعاب والتوظيف من قبل النظم المحلية والدولية، والمحافظة على استقلاليته وتحرره وفاعليته في إنجاز أهداف المشروع الإسلامي.
أما المجموعة الثانية من الأسئلة التي يحاول "منتدى كوالالمبور" الإجابة عنها، فكانت تحت عنوان "الاستئناف الحضاري ومشاريع الإحياء في الأمة الإسلامية"، وركزت على أسئلة حركية مثل: سؤال "الحركات الإسلامية وكيفية استعادة القدرة على الاستئناف الحضاري وإكمال مسيرتها التي بدأت منذ قرن من الزمان" أو سؤال "الحركات الإسلامية بين الفكرة العالمية والمشروع القُطري" أو سؤال "وحدة المرجعية الفكرية الإسلامية الواحدة للمسلمين في العالم".
هذه التحركات في فضاء الفكر قد لا يهتم بها المتابعون، ظنًا أن الانشغال بالتنظيم وعوامل انهياره وتفتيته كافٍ، ولا شك في أهمية تحجيم التنظيم، وضرورة وقف فاعليته، إلا أن مواجهة الأفكار والمؤسسات التي ستعمل على تدويلها وإعادة إنتاجها، لا تقل أهمية عن ضرورة تفتيت التنظيم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة