الإخوان نحو موت إكلينيكي.. نعش في ضريح بلا شاهد
معارك تطحن أجنحة الإخوان المتصارعة على النفوذ تختزل في طياتها أكثر من مجرد أزمة عابرة وتشي بأن التنظيم دخل مرحلة الموت الإكلينيكي.
فالخلاف في ظاهره على المنصب وفي باطنه على الدور الوظيفي المقبل، ورغم انشقاقات الجماعة لأكثر من تكتل، إلا أن أكبر تكتلين يتصارعان على القيادة، هما جبهتا محمود حسين (الأمين العام السابق للجماعة) في إسطنبول، وإبراهيم منير (القائم بأعمال مرشد الإخوان) بلندن.
الأولى يتبعها عدد معتبر من مكاتب الداخل المصري الذي له وزن كبير في تكوين جماعة الإخوان العالمية، وتؤمن ببقاء التنظيم على ما هو عليه.
أما الكتلة الثانية، فيتبعها التنظيم الدولي بأفريقيا وأوروبا ودول شرق ووسط آسيا، وبعض دول الخليج العربي، وترى ضرورة التحول إلى تيار فكري مع قليل من التنظيم إلى حين العودة للشارع المصري.
هنا يطرح السؤال نفسه: هل يمكن التمسك بالتنظيم في ظل الخسائر المتلاحقة والانشقاقات التي طالته خلال العقد الأخير؟
وبالمقابل، هل يمكن أن تتحول الجماعة إلى تيار عام يؤثر في وعي المجتمعات العربية والإسلامية ويغير العرف العام لتجهيز عودة الإخوان مرة أخرى؟
نهاية لا مفر منها
من المؤكد أن الصراع بين أجنحة الإخوان سينتهي عاجلاً أو آجلاً، لكنه سينتهي وقد أصاب التنظيم وسدنته (محمود حسين وجبهته) الكثير من الخسائر، سواء بتعدد الانشقاقات أو بسقوط شرعيته، أو بضعف تأثيره وفاعليته نظراً لكم الاتهامات الأخلاقية التي طالت قيادات تلك الجبهة والتي سيكون من الصعب تقبل خطابها التربوي والدعوي الداخلي.
ستنتهي المعركة بموت التنظيم الحالي بقيادته وأدبياته (مؤقتاً) وظهور وإنشاء التيار الفكري السائل، كأمر واقع لا مفر منه، والتحول سيكون شبيهاً لتلك المرحلة التي كانت في بداية الجماعة سواء بالتأسيس الأول في الثلاثينات أو التأسيس الثاني في السبعينات من القرن الماضي.
بمعنى أدق، ستكون هناك سيولة في التنظيم وتدفق في الأفكار وعدم التدقيق في شروط العضوية والتخفيف من أساليب التجنيد التقليدية التي دشنها مصطفى مشهور في كتيبه المشهور "الدعوة الفردية" والذي يعد التمظهر الدائم لتجنيد الأعضاء الجدد، وهذا التحول سيتبعه ولا شك تغيرات في بنية الجماعة وخطابها المعلن وهويتها الفكرية.
تقوم جماعة الإخوان المسلمين على شقين: فكرة/ تنظيم، والفكرة كانت باختصار أن الإسلام غائب عن حياة المسلمين ( جاهلية القرن العشرين) وضرورة استعادته ليحكم حياتنا الشخصية أو يحكم حياتنا العامة ( الحاكمية).
ولأجل هذه الأفكار، تأسس التنظيم ليستخلص أدوات الحكم من أيدي الحكومات التي لا تطبق شرع الله حسب تعبير المؤسس حسن البنا، ونجح في الحفاظ على الأفكار كحلم يسعى الإخوان لتطبيقه وبشروا به الناس تحت شعار "الإسلام هو الحل".
كما نجح التنظيم في تجنيد العديد من الأفراد، وحمل الأفراد الفكرة ونشروها بين أقرانهم وذويهم، وساهموا في تغيير هوية المجتمع عبر الفعاليات التي نظمها التنظيم لصالح نشر الفكرة.
صدام
لكن مع صدام الإخوان تنظيمياً مع الدولة المصرية واستكبارهم على المجتمع وممارساتهم المستفزة، وسقوط مشروعهم الوهمي، اكتشف الجميع عدم امتلاكهم حلولاً، ومن ثم رفضهم الشارع المصري ومن ورائه العربي سواء فكرةً أو تنظيماً، مع خسائر التنظيم لقدراته على القيام بأدواره التقليدية مثل؛ التجنيد والتوظيف داخل التنظيم وتفعيل المسارات التربوية، مع الوضع في الاعتبار أنّ هذا التصدع مرشح للزيادة مما يعد تهديداً صريحاً يمنع استمرار الجماعة.
ظن الإخوان أنها فترة مؤقته أو هزيمة طارئة، وأنه يمكنهم العودة بشكلهم التقليدي المتمثل في التنظيم القوي والفكرة البراقة، لكنهم واجهوا ممانعة شعبية وليست أمنية فقط، وأصبحوا في حاجة لتغيير أساليبهم التقليدية بما يسمح لهم بالتسلل مرة أخرى للمجتمعات العربية والإسلامية.
ثم ظهرت فكرة تحول (المؤقت) لتيار فكري في مايو/أيار 2021 فيما يعرف بوثيقة لندن، والتي تتضمن تخفيف قيود التنظيم من تراتيب هيكلية وعدم التركيز على تجنيد عناصر جديدة مع تغيير الخطاب العام، مع بقاء التنظيم بشكل مخفف والاعتماد على ذاتية الحركة الفردية للأفراد، ليصبح المجتمع هو وعاء الفكر الإخواني وليس التنظيم.
ولأنّ خلق تيار عام يحتاج إلى توفير بيئة مجتمعية حاضنة له، اقترحت الوثيقة التوقف عن المناكفة السياسية المعلنة، وتقديم خطاب ملهم يلتف حوله عناصر المجتمع دون الخوف من الوقوع تحت طائلة القانون، بمكونات محلية وعالمية.
أما المحلية فتتمثل في الاعتماد على نشر ثقافة الاعتراض على أي شيء وكل شيء، وخلق شعور بعدم الرضا المجتمعي والتأفف من كل إنجاز والتركيز على السلبيات ونشر الشائعات، تمهيداً لخلق أزمة بين الدولة ومؤسساتها والمواطن.
كما يرتكز ذلك على تحميل ثلاث مؤسسات بعينها المسئولية وهي مؤسسة الرئاسة والجيش والشرطة، مع الإشارة من بعيد إلى ضرورة وضع البعد الإنساني في التعامل مع المسجونين من الإخوان باعتبارهم فصيل معارض له أخطاء كما له إيجابيات، تمهيداً لنشر مظلومية الإخوان الركيزة الأهم في عودة الإخوان ثانية، مستخدمين السوشيال ميديا (مواقع التواصل) وصناعة التريند، مع الدعوة للارتباط بشبكة إعلام الإخوان، وتخصيص بعض التطبيقات لمن يدير تلك الحملات على التليجرام أو غيرها.
أما الخطاب العالمي، فسيتم التركيز فيه على ثلاثة محاور، الأول: قضايا الأقليات المسلمة ونصرتهم، كالإيجور في الصين والروهينجا في ميانمار، والثاني القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية يهتم لها أغلب العرب والمسلمين، والثالث إبراز شخصيات عامة لها ولاء للجماعة تتبني قضايا مجتمعية غير أيديولوجية.
عقبات
هناك عقبات كثيرة ستقابل هذا التحول؛ أولها القيادات التنظيمية التقليدية أمثال مجموعة محمود حسين وقيادات المكاتب الإدارية وربما بعض القيادات التاريخية التي في السجن وعلى رأسهم خيرت الشاطر (نائب مرشد الجماعة الذي يقضي عقوبة السجن في عدة جرائم إرهابية)، والتي لا تعرف الإخوان إلا من خلال التنظيم، ولن يجدوا أنفسهم في التيار لأنهم لا يملكون خطاباً لا تربوياً ولا فكرياً، وبالتالي سيمانعون هذا التحول.
العقبة الثانية، وجود مخاوف حقيقية لدى العديد من عناصر الإخوان من خطورة التحول لتيار فكري خشية ذوبان الفكرة الإخوانية في بوتقة الفكر السلفي، أو السيولة السلفية مما يصعب السيطرة على الأعضاء وعدم استعادة التنظيم ثانية.
العقبة الثالثة هي الزمن فهذا التحول سيحتاج إلى زمن طويل لتحويل الرأي العام العربي والمصري لصالحهم، وبالتالي ستظل قضية المسجونين ورعايتهم عالقة، كما أن المحكوم عليهم بأحكام إعدام نهائية سيكونون تحت رحمة التصديق على تنفيذها، والجماعة تحتاج إلى ضغط شعبي لتحقيق هذا الطلب.
وعلى كل الأحوال، من المؤكد موت التنظيم واحتمال كبير ظهور التيار الفكري الإخواني ، لكن الأهم هو الاستعداد والتجهيز لمواجهة التيار الفكري الإخواني بأساليب جديدة، فالأفكار القديمة ومواجهة الإخوان أمنياً باتت من الماضي، خصوصا أنهم أوجدوا وكلاء يقومون بنشر مظلوميتهم للتغطية على جرائمهم، ويقودون حملات تأثير على الرأي العام.
والمواجهة هذه المرة تحتاج إلى شقين؛ شق يقوم بكشف أفكار الإخوان وتتبعها وفضخ أغراضها، وآخر يقوم بالتدشين لمشروع فكري قومي يعمل على إزاحة أفكارهم الماضوية التي تعمل على الاستقطاب وتفسخ المجتمع والاحتراب الداخلي وتمنع التنمية المستدامة وتخلق انتماءات متعددة لدى المواطن، آخرها وأقلها الوطن، وأعلها وأهمها الانتماء للجماعة والتنظيم والولاء للمرشد.
وإجمالا، يبدو المشهد في حاجة لمشروع فكري مدني يهتم بالإنسان ويقدس التسامح والتعارف والتكامل والمواطنة، ويوقف الصراعات والاستقطاب الحاد والتخوين والتكفير، وإراقة الدماء، ويحترم شكل الدولة المدنية الوطنية الحديثة، مع التوقف عن التفاسير الماضوية لبعض المفاهيم الإخوانية مثل الحاكمية والجاهلية وحتمية الحل الإخواني، وكذب إدعاءهم بغياب الإسلام عن المسلمين، مع ضرورة تطوير الفكر الإسلامي والخطاب الديني.