الإنسانية والأخوة، الحوار والجوار، التعايش الإنساني المشترك هي أدوات الطوق المنجي من الغرق المتمثل في تغييب الضمير الإنساني.
بما يشبه أبناء هذا الجيل؟ إنهم أشبه ما يكونون ببحارة على سفينة واحدة، يجدف بعضهم ناحية الشرق، ويمضي آخرون في تجديفهم جهة الغرب، أما النتيجة الكارثية فهي أن السفينة سوف تغرق ومن عليها.. هل نحن بالفعل في زمن "غرق الحضارات" كما يشير عنوان كتاب الأديب اللبناني الأصل الفرنسي الجنسية أمين معلوف، في مؤلفه الأخير والبديع ضمن سلسلة يحاول فيها استشراف مآلات العالم؟
يكاد الناظر لرؤى أمين معلوف أن يدرك الخطر الذي تتعرض له البشرية في حاضرات أيامنا، فقد استشرف مبكرا إشكالية الهويات المتصارعة والمتقاتلة، كان ذلك بعد سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي في 1990، وانحطاط الطرح الشيوعي، إلا أن الذين يتلاعبون بمصائر وأقدار العالم في الخفاء لم يعدموا ابتكار رؤى صراعية جديدة، فكان أن خرج علينا عالم الاجتماع السياسي "صموئيل هنتنجتون" بأطروحته عن حتمية صراع الحضارات، حيث قسّم العالم إلى معسكرين يهودي مسيحي غربي، في مواجهة كونفوشيوسي إسلامي شرقي.
الهويات القاتلة وخلال عشر سنوات، قادت العالم -بحسب معلوف- إلى الاختلال الفكري والمالي والمناخي، وهو اختلال جيوسياسي وأخلاقي، وبات التساؤل عما إذا كان الجنس البشري قادرا على التقدم أم أنه يعاني من حالة قصور أخلاقي؟
الإنسانية والأخوة، الحوار والجوار، التعايش الإنساني المشترك هي أدوات الطوق المنجي من الغرق المتمثل في تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية، وكذلك استدعاء النزعة الفردية والفلسفات المادية التي تؤله الإنسان، وتضع القيم المادية الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية.
تساؤلات أمين معلوف السابقة دفعتنا في طريق القلق، لكنه ليس قلقا اعتياديا، بل يمكننا القول إنه قلق نصير للأنوار التي يراها تترنح، وتشحب في الكثير من بلدان العالم، وتكاد تشرف على الانطفاء في أماكن أخرى. إنه قلق مولع بالحرية، تلك التي كان المرء يحسبها سائرة إلى الانتشار في كل أنحاء المعمورة، والآن يشهد الجميع ارتسام ملامح عالم لا مكان لها فيه. إنه قلق نصير للتنوع المتناسق، لكن الواقع المؤلم يدعونا مع صياح الديك للاستيقاظ على تعصب متصاعد، وعنف ونبذ ويأس متراكمين، إنه قلق عاشق الحياة الذي لا يقبل التسليم بالفناء الذي يتربص بالجنس البشري.
يدعونا أمين معلوف إلى التوقف أمام لحظة انهيار جدار برلين، تلك اللحظة التي منحتنا الأمل في ولادة جديدة لعالم جديد، وبخاصة بعدما انتهت – ولو ظاهريا أو مرحليا– المواجهة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، بعد إزالة التهديد النووي الذي كان مسلطا فوق رؤوسنا منذ أربعين عاما، ومنحنا الشعور بأن الديمقراطية لن تلبث أن تنتشر في العالم.
غير أنه وللأسف الشديد بدت الأمور تسير في اتجاه آخر معاكس، فمع أن تفكك الاتحاد السوفيتي شكّل انتصارا للاتحاد الأوروبي أولا من خلال طرق معظم دول أوروبا الشرقية باب هذا الاتحاد للانضمام إليه، فقد فقدت القارة العجوز بوصلتها ودخلت في نفق تساؤلات حول هويتها وحدودها ومؤسساتها المستقبلية ودورها في العالم من دون أن تتمكن من بلوغ أجوبة مقنعة لشعوبها.
هل كان اختلال العالم نتيجة طبيعية للهويات القاتلة؟
وفقاً لمعلوف، فإن الهوية لا تعطى مرة واحدة وإلى الأبد إلى الفرد، بل تتشكل من عدة انتماءات تتبدل ويختلف تراتب عناصرها طوال حياته، وتاليا الهوية قابلة للتغيير والتبدل حسب تأثير الآخرين بشكل أساسي على عناصرها، وأن الفرد يميل بطبعه فيما يخص تعريف هويته وتحديد انتمائه بأكثر من عناصر هويته عرضة للخطر، خطر الإهانة والسخرية أو التهميش أو القمع.
في هذا السياق، يمكن القول إن مسألة الهويات في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين قد أضحت مسألة لزجة، أي أنها قابلة للتشكل، وأن الآخر هو شريك في صناعة تلك الهوية.
لكن لم يستمع أحد إلى معلوف في 2009، وخلال عشر سنوات بدا كأن الهويات القاتلة تقود العالم إلى التهلكة ومعين حضاراته إلى الغرق، فالمتصارعون يرفضون سياقات الحوار أو نطاقات الأخوة، هذا المفهوم الذي تنبهت له دولة الإمارات العربية المتحدة، ويسرت السبل لأكبر مؤسستين دينيتين حول العالم؛ حاضرة الفاتيكان والأزهر الشريف، لأن تقولا كلمتهما، وتحاولا جاهدتين تصحيح مسار البشرية وإنقاذ مصيرها.
بعقلانية وواقعية يرصد أمين معلوف في "غرق الحضارات" أزمنة العبث -إن جاز لنا أن نسميها هكذا- التي تطوف بنا في العقود الأخيرة عبر ملامح بائسة وظواهر ومظاهر غير خلاقة بل مهلكة من العنف الأعمى، والإرهاب القاتل، والمخاطر الجسيمة التي تهدد البشرية راهنا، اقتصادية كانت أم سياسية، ثقافية أم حضارية، ما يجعل القارئ يتساءل أهي "السفينة أتلانتيك تغرق من جديد بمن عليها"؟
يفتح معلوف أعيننا على الجُبِّ التاريخي المظلم الذي يعيش العالم العربي فيه، وغير قادر على الصعود من جوفه، منذ زمن الاستقلال والتخلص من الاستعمار الأجنبي، وصولا إلى أزمنة الاضطرابات الأخيرة التي اصطلح على تسميتها الربيع العربي، ذاك الذي لم يكن ربيعا ولم يتجاوز الشتاء الراديكالي القارس، وها هو عقد يقترب بعد بداية تلك العشرية المخيفة، والحال تغني عن السؤال.
أما الغرب فيعيش -بحسب المؤلف- ردة حضارية تتمثل ملامحها في تراجع الأحزاب الاشتراكية والتيارات اليسارية لصالح قوى اليمين المتطرف، والشوفينيات العنصرية.
العالم أمام لحظة غرق حضارية حقيقة لا خيال، والحلول الضرورية الناجعة دون تهوين أو تهويل يمكننا أن نجد مساحة عريضة منها ضمن وثيقة الأخوة الإنسانية، التي صدرت في فبراير/شباط الماضي في الإمارات العربية المتحدة، معبرة عن روح إيمانية وإنسانية تقي العالم شر الأسوأ الذي لم يأتِ بعد.
وثيقة الأخوة الإنسانية تطالب قادة العالم وصناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي بالعمل جديا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي.
لن ينقذ العالم من الغرق -بحسب وثيقة الأخوة الإنسانية- إلا المفكرون والفلاسفة، ورجال الدين والفنانون والإعلاميون والمبدعون في كل مكان، أولئك هم القادرون على إعادة اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والسعي معا للعيش المشترك.
البشرية اليوم إزاء الغرق المحتمل لا بد لها من طوق نجاة، وإعلان وثيقة الأخوة الإنسانية يأتي انطلاقا من تأمل عميق لواقع عالمنا المعاصر وتقدير نجاحاته ومعايشة آلامه ومآسيه وكوارثه.
الإنسانية والأخوة، الحوار والجوار، التعايش الإنساني المشترك هي أدوات الطوق المنجي من الغرق المتمثل في تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية، وكذلك استدعاء النزعة الفردية والفلسفات المادية التي تؤله الإنسان، وتضع القيم المادية الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية.
الخلاصة.. حيث المحبة والحوار والجوار هناك طوق النجاة ولا غرق يكون فيما بعد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة