قمة بروكسل الأوروبية.. تنافس مع أمريكا وضغوط على روسيا
تتعدد الملفات على جدول أعمال القمة الأوروبية من إشكاليات التنافس مع الإدارة الأمريكية حول المسائل التجارية إلى محاولة الضغط على روسيا.
في كلمتها الأسبوعية المتلفزة عبر الإنترنت أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن ألمانيا وفرنسا سوف تدفعان خطتهما الخاصة باستراتيجية الصناعة الأوروبية أمام قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل (21-22 مارس/آذار الجاري). ولم تكتفِ ميركل بهذا، بل أضافت أنه "من الضروري التطرق خلال القمة إلى التحالف (كونسورتيوم) المقرر في هذا الشأن، وسنحاول كسب دول أعضاء أخرى لهذا المسار بالتحديد".
فما هي هذه الاستراتيجية التي تلتقي عندها كل من ألمانيا وفرنسا؟ ولماذا التطرق إلى "التحالف" المقرر في هذا الشأن؟ والأهم ما هي علاقة تلك الاستراتيجية بالاتفاق الموقع بين ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يناير/كانون الثاني الماضي، بخصوص "الشراكة" بينهما؟.. وأخيرا، لماذا في هذا التوقيت تحديدًا يتم الإعلان عن الخطة الألمانية الفرنسية (؟!).
مثل هذه التساؤلات تلتقي عند نقطة مركزية تشير إلى التوجه الذي تقوده ألمانيا، ومعها فرنسا، والذي تعبر عنه بقوة الاختلافات الحادة بينهما من جانب وبين قوى دولية أخرى، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، حول العديد من القضايا الدولية، مثل قضايا التغير المناخي والتجارة الحرة، فضلًا عما يحدث في شرق أوروبا.. وغيرها، ناهيك بالخلاف مع بريطانيا بخصوص إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ولعل المثال الواضح هو اللهجة التي طالبت بها الرئاسة الفرنسية من لندن أن تُقدم اقتراحًا "واضحًا" حول "بريكست" قبل القمة الأوروبية، حيث اعتبرت أن على لندن أن تختار بين الموافقة على خطة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، أو على "خطة بديلة واضحة وجديدة"، أو على خروج بريطانيا من دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي. مثل هذه اللهجة تشير إلى الموقع الذي تتمتع به فرنسا، في إطار الاتحاد الأوروبي، وفي ظل التقارب مع ألمانيا .
تقارب ألماني فرنسي
رغم أن "بريكست" سيكون الملف الأول على جدول أعمال القمة الأوروبية فإن الخطة الألمانية الفرنسية ستأخذ موقعًا متميزًا على هذا الجدول، خاصة أن برلين وباريس أعلنتا، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اعتزامهما الاشتراك في إنتاج خلايا البطاريات الخاصة بالسيارات الكهربائية. لكن الاشتراك بينهما لم يقف عند هذا الحد، فقد كان الحدث الأبرز هو توقيع اتفاق الشراكة الجديد بين ميركل وماكرون في أوائل العام الجاري.
هذا الاتفاق ليس مجرد سعي من جانب ألمانيا وفرنسا نحو تشكيل "جيش أوروبي موحد"، بناءً على دعوة الرئيس الفرنسي لمواجهة التحديات التي تأتي أوروبا من خارجها، بل هو -في حقيقته- محاولة في تعميق الشراكة والتحالف بينهما في مجالات متعددة، من بينها الدفاع عن أراضي البلدين ووصفها بأنها مسؤولية مشتركة، فضلًا عن التعاون في برامج عسكرية كبرى، مثل المشروعات الخاصة بالدبابات والطائرات المقاتلة، والسعي للوصول إلى اقتراب مشترك فيما يخص صادرات السلاح، اعترافًا بأنه كان للبلدين رؤى متناقضة في هذه الشأن.
وفيما يبدو، فإن ملامح الخطة التي أعلنت عنها المستشارة الألمانية تُمثل -واقعيًا- تطويرًا لمشروع الرئيس الفرنسي، الذي يهدف إلى تعزيز الدفاع على المستوى الأوروبي عن القطاعات الصناعية الاستراتيجية "في مواجهة أطماع الخارج"، التي أعلنت ألمانيا عن مساندتها له في أكثر من مناسبة.
وبالتالي، يبدو أن الطرفين يحاولان توجيه رسالة واضحة للعالم، عبر التقارب بينهما، ومن خلال القمة الأوروبية في بروكسل، تؤكد مكانتهما كقوى دولية كبرى أقل اعتمادًا على الآخرين؛ وتؤكد، في الوقت نفسه، أن الدولتين تتحركان نحو شراكة دفاعية وصناعية أكثر تطورًا، تحتمل انضمام أطراف أوروبية أخرى، خاصة أن ألمانيا هي الممول الرئيسي للمفوضية الأوروبية، وصناديق الإنقاذ المالي الأوروبية.
ورغم التحديات التي تواجهها الدولتان، بشأن قيادتهما المشتركة للاتحاد الأوروبي، خصوصا من إيطاليا والمجر وبولندا، فإن هذا لا يغير من دلالات التقارب الألماني الفرنسي، وأهميته في قيادة الاتحاد الأوروبي، على الأقل من منظور التحدي الكبير الذي تمثله الإدارة الأمريكية الحالية، التي يقودها دونالد ترامب، الذي أحرج البلدين إلى حد الإهانة، ومعهما الاتحاد الأوروبي، مطالبًا كليهما بتحمل المسؤولية الدفاعية، وزيادة نصيب كل منهما في حلف الأطلنطي "ناتو" .
تنافس مع أمريكا
ورغم دعوة ماكرون أكثر من مرة إلى "تفادي القطيعة مع الولايات المتحدة، وعدم عزل واشنطن" فإن التوجه المُعبر عن "حمائية ترامب" الذي يأتي على خلفية شعار "أمريكا أولًا"، ويستهدف حماية التجارة الأمريكية في إطار المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.. يوضح طبيعة الاستقطاب الحاصل في التفاعلات بين أوروبا وأمريكا، خاصة في إطار الصراعات التجارية بينهما.
فهذه الصراعات التي بدأت مؤشراتها حاليا ليست وليدة اللحظة، أو أن ترامب يحاول إشعالها اعتباطا، إذ يكفي أن نلاحظ القواعد الأساسية التي تنبني عليها سياسة الإدارة الأمريكية الحالية.. فهناك إصرار على تعزيز القوة الاقتصادية الأمريكية ومواجهة المنافسين لها، وهناك اعتبار أن الأوروبيين يعيشون على منافع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي دفع ترامب إلى تحدي أوروبا أن تتبنى التبادل التجاري الحر.
بناءً على هذه القواعد بدأت مؤشرات الصراعات التجارية تتضح خلال العامين الأخيرين، منذ قمة العشرين في عام 2017، وكذا في قمة حلف الأطلنطي التي عقدت في 25 مايو/أيار الماضي، وقمة الدول الصناعية السبع في اليومين التاليين لها، التي شارك فيهما ترامب للمرة الأولى، وما تبدى خلال هذه القمم من اختلاف واضح بين القوى الدولية الكبرى عمومًا وأمريكا وأوروبا بشكل خاص، حول المصالح والتوجهات الاقتصادية، سواء بخصوص صادرات الصلب الأوروبية، أو ما يتعلق بالصادرات الألمانية من السيارات وغيرها.
ولعل هذا ما يؤكد أن العلاقات الأمريكية مع "الحلفاء التقليديين"، أوروبا تحديدًا، تشهد تغيرات حادة، خاصة وقد بدا واضحًا أن واشنطن لا تتنصل فقط من التزامها السياسي والتعاقدي بأمن أوروبا، ولكن أيضًا في رؤيتها أن حلف "ناتو" قد أصبح عبئًا عليها. ولعل هذا نفسه ما دفع المستشارة الألمانية، في سابقة هي الأولى من نوعها، إلى أن تطالب الدول الأوروبية بعدم الاعتماد على الولايات المتحدة مستقبلًا، وبأن تتولى أمورها بنفسها فيما يخص قضايا الأمن والدفاع الجماعي. بل لعله الدافع الرئيسي إلى توقيع الاتحاد الأوروبي واليابان في 17 يوليو/تموز الماضي اتفاقًا طموحًا للتبادل الحر، يُعتبر رسالة قوية ضد الحمائية التي ينتهجها الرئيس الأمريكي ترامب.
وهكذا تأتي قمة بروكسل هذا العام في خضم التنامي المتزايد للاختلافات الأوروبية الأمريكية، والاستقطاب الحاصل بينهما حول العلاقات التجارية، وبالأخص الصادرات الأوروبية من الصلب والسيارات وغيرها إلى السوق الأمريكية .
ضغوط على روسيا
مناخ الاختلافات الأوروبية الأمريكية حول مسائل التجارة ليس هو وحده ما يُخيم على القمة الأوروبية في بروكسل، بل تأتي أيضًا الضغوط التي يحاول الاتحاد الأوروبي فرضها على روسيا، لتزيد من ملامح التشابك في الملفات التي تناقشها القمة.
فما بين موعد انعقاد القمة والعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا 15 مارس/آذار الجاري، والتلويح الروسي بالرد على هذه العقوبات في اليوم التالي مباشرة لم تمضِ سوى أيام قليلة، فقد فرض الاتحاد مع كندا والولايات المتحدة الأمريكية العقوبات الجديدة على خلفية الهجوم الروسي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على 3 سفن أوكرانية، وكذلك بسبب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، فضلًا عن اتهامها بدعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا.
وفيما يبدو فإن خطوة العقوبات الجديدة المفروضة من الاتحاد الأوروبي، وإن كانت تتوافق مع التوجه الأمريكي، إلا أنها تأتي في إطار الضغط على روسيا بشأن مسائل أكثر استراتيجية، وأهمها الغاز الروسي، الذي تحتاج إليه أوروبا الغربية عموما، وألمانيا بوجه خاص. هذا فضلًا عما يتعلق باتفاقية الصواريخ متوسطة المدى بين واشنطن وموسكو التي أعلن الرئيس الأمريكي نيته الانسحاب منها، وترى فيها أوروبا -بناءً على ذلك- خطرًا يهدد الأمن القومي لدولها.
أضف إلى ذلك محاولة الاتحاد الأوروبي قطع الطريق على إدارة ترامب في التقارب مع روسيا حول بعض الملفات الدولية، إذ إن المثير للتأمل أن ترامب لا يرى في روسيا عدوا، يتعين العمل على إلحاق الهزيمة به، بل يراه منافسا يمكن التعايش معه على أساس تبادل المنافع. ومن ثم تبدو المحاولة الأمريكية لـ"التفاهم" مع روسيا، في إعادة ترسيم الخريطة الاقتصادية العالمية بشكل يحقق المصالح الأمريكية عن طريق القطب العسكري والاستراتيجي المهم دوليا روسيا.
فالرئيس الأمريكي يعتقد جازما أن الصراعات التجارية التي يخوضها حاليًا مع القطب الاقتصادي المنافس الصين، ومع حلفاء أمريكا الأوروبيين، إضافة إلى كندا والمكسيك، ستؤدي إلى تطويع هذه القوى ورضوخها لشروطه.
في هذا السياق، تتعدد الملفات وتتشابك على جدول أعمال القمة الأوروبية من إشكاليات التنافس الدائر مع الإدارة الأمريكية حول المسائل التجارية، والاستقطاب الحاصل بهذا الخصوص سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو على ساحة العلاقات الدولية، إلى محاولة الضغط على روسيا من خلال العقوبات لاستهداف مسائل أكثر استراتيجية بالنسبة إلى أوروبا، وصولًا إلى الخطة الألمانية الفرنسية بشأن استراتيجية الصناعات الأوروبية.. وهي الخطة التي يمكن أن تزيد من حدة التوتر بين الدول الأوروبية، بخصوص القيادة المشتركة لألمانيا وفرنسا للاتحاد وتوجهاته المستقبلية.