لنهدأ قليلاً ونأخذ استراحة من سيل القدح والذم لقرار واشنطن الانسحاب من أفغانستان. فحوى هذا السيل أن أمريكا العظيمة ضُبطت على الهواء مباشرة، وطوال أيام، مستمرة إلى الآن، وهي تصارع الفوضى التي خلفها انسحابها من أفغانستان.
أمريكا العظيمة عرضت حياة أمريكيين وأفغان للخطر.. طائراتها أقلعت بشكل مرتجل.. بدت مثل دولة غير أهل للثقة من حلفائها في الشرق الأوسط والعالم.. القلق الذي أصاب المنطقة العربية وإسرائيل هو نفسه في لندن وبروكسل وصولاً إلى تايوان.. ساذجة وهي تقدم الهدايا المجانية لخصومها في آسيا من الصين إلى روسيا إلى إيران.
لن أناقش في كل ما سبق، فأمريكا كبيرة إلى الحد الذي يجعلها قادرة على ابتلاع كل هذه الطعون.. إنه ببساطة فشل بوسع أمريكا تحمله.. بل أكثر من ذلك، إنه هامشي لا يصلح إلا لرفد اللغو "الأنتي-أمريكي"، الذي ما انفك عند كل مفرق سياسي وأمني يعلن نهاية أمريكا، فنعي العصر الأمريكي، الذي فيه أنتجت أمريكا ثلاثة لقاحات لوباء "كورونا"، ووحدها كانت قادرة على توفير سيولة نقدية فلكية لشركات صناعات الأدوية لشراء الوقت وإنقاذ الكوكب، ضرب من ضروب الخبل السياسي، لكنه في الوقت نفسه، سردية ثقافية وإعلامية وشعبية عميقة الجذور وقادرة في كل مرة على تشويش فهم الأحداث.
كل ما أحاط بمشهدية الانسحاب من أفغانستان، يحكي عن أزماتنا أكثر مما يحكي عن أزمة واشنطن.
لماذا فشلت النخبة الأفغانية، التي توفر لها عشرون عاماً من الرعاية الأمريكية ومئات مليارات الدولارات وأعرض مساحة ممكنة من الاحتضان الدولي والاستقرار الإقليمي، في إنتاج أي شيء مستدام، أو قصة نجاح رصينة؟ هل هي عشرون عاماً من الهباء الكامل، الذي تعلن عنه العودة، في أفغانستان، إلى المربع الأول تماماً، لا المربع الرابع أو الخامس أو... العاشر؟!
قبل التورط في سيل نقد السياسة الأمريكية في أفغانستان، لنتذكر أن سيرة التدخل الأمريكي وسياسة "بناء الدول" أو "تصدير الديمقراطية" لم تكن سيرة فشل موصول.
لنتذكر أن أمريكا نجحت في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ونجحت أيضاً، في مجتمعات مختلفة تماماً، في كوسوفو والبوسنة، بعد الحرب الباردة، وأسهمت إسهامات حاسمة في نجاح وترسيخ التجربة الفيتنامية والكورية الجنوبية.
وبعد حرب الخليج، وخلافاً لعموم الرأي العام الأوروبي، قاد جورج بوش الأب فكرة دعم توحيد ألمانيا في أثر سقوط جدار برلين، وإعادة بنائها على هذا الأساس.
هذه نماذج شديدة الاختلاف لناحية التركيبة الاجتماعية ومدى صفائها أو تنوعها، أو لناحية مستوى البنية الصناعية داخل الاقتصاد، أو درجة حضور القيم الغربية في المجتمع ما قبل وما بعد إعادة البناء، لكنها تجارب ناجحة اقتصادياً وسياسياً ونظامياً ومجتمعياً ولو بتفاوت.
هذا نجاح لا يجُبّ عدم نجاح أمريكا في أماكن أخرى، ومنها أفغانستان، حيث تميزت هذه الحرب بكثير من التردد، وضعف الالتزام تجاه مستقبل البلد المحتل، وعدم وضوح الرؤية حول ما يريده صانع السياسة الأمريكي من الحرب وما بعدها، وصغر العديد العسكري مقارنة بتجارب أخرى! كل هذا صحيح.
بيد أن ذلك لا يجبّ فشلنا، نحن بعض أبناء هذه الناحية من الكون والثقافة والقيم، التي ما انفكت تنتقل من حرب إلى حرب ومن ثأر إلى ثأر ومن تاريخ إلى تاريخ أعمق وأكثر تعقيداً وأثقل أوهاماً.
سيرة الفشل هذه يرويها الصومال... والعراق... وبيروت... وغزة...
إنها مفارقة عجيبة أن أكثرنا طلباً للاستقلال والكرامة الوطنية هو أكثرنا ميلاً للاستعمار الداخلي والاحتلال الداخلي...
هل ينبغي أن تستوقفنا هذه التجارب، وتقعدنا قليلاً عن سيل قدح أمريكا وذمها وبذل الجهود للتوسع في تقديم البراهين على "فشل أمريكا"؟!!
لماذا لم تنجح غزة بعد تحريرها في أن تمتلك حداً أدنى من مواصفات النجاح والحكم الرشيد؟ لماذا تحول لبنان منذ الانسحاب الإسرائيلي رويداً رويداً نحو دولة فاشلة تماماً؟ لوهلة يظن المرء أن الاحتلال الإسرائيلي كان نعمة بما وفره من صمغ يضم أجزاء المجتمع اللبناني بعضها إلى بعض قبل أن يفرطها "التحرير"!!
لماذا نفشل حيث ينجح الآخرون؟ وما القيم التي تؤخرنا وتفسح مجالات التقدم لغيرنا؟
لماذا نجحت السعودية والإمارات في تجارب سياسية واجتماعية وتنموية وفشل غيرهما؟ النفط ليس جواباً كافياً.. فنزويلا صاحبة أكبر احتياط نفطي في العالم، فيما أحوالها معروفة ومشهودة!
حين غادر الإنجليز أبوظبي كان بين أبنائها سبعة فقط من خريجي الجامعات، في حين أن بعض أبنائها على سطح المريخ اليوم.. لم يتطلب الأمر أكثر من خمسين عاماً، أي أكثر بقليل من ضعف الفترة التي توفرت لأفغانستان لأن تكون شيئاً مختلفاً الآن.
هذه أسئلة من لحمنا ودمنا، وعن لحمنا ودمنا...
بوسع أمريكا أن تهضم فشلها الأفغاني...
أما فشلنا نحن فمؤداه أن يتعلق المحررون والمنتصرون بعجلات طائرات المحتل وهي تقلع "منسحبة".
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة