في بدايات القَرنِ الماضي، كتب مثقّف مغمورٌ لم يحفظ التاريخ اسمه، -للأسف-، مقطعاً بسيطاً يعرّف من خلاله بتقاليدِ المَدارس الفكرية في الغرب، ونمطية تفكير فلاسفة أوروبا بطريقة وإن كانت هزلية إلا أنها لا تخلو من رمزية عميقة من التاريخ، وبتصرف.
فثلاثة أشخاص: فرنسي وإنجليزي وألماني طلب من كل واحد منهم أن يقدم دراسة عن الجمل، فذهب الفرنسي إلى حديقة النبات وأمضى فيها نصف ساعة وسأل الحارس، رمى الجمل بحجر، لكزه بطرف مظلته، وعاد إلى بيته، وكتب لجريدته ورقة ملأى برؤى مؤثرة وعقلانية.
وذهب الإنجليزي حاملاً سلة الشاي وعدة موافقة للتنجيم، ونصب خيمته في بلاد الشّرق، وعاد منها بعد إقامة دامت سنتين أو ثلاث بمؤلف ضخم بالوقائع غير المنتظمة أو المستخلصة، لكن ذات قيمة واقعية موثقة.
أما الألماني شديد الفوقية ضد خفّة الفرنسي وغياب الأفكار العامة عند الإنجليزي فانزوى في غرفته ليحرر مؤلفاً من عدة أجزاء عنوانه: فكرة الجمل، مستلة من تصوّر الأنا.
في الحقيقة، هذه القصة القراءة من وجهة نظري غير مكتملة الأركان، كونها غفلت عن التصور والرأي الآخر الذي قام ببنائه إنسان المكان الذي ينتسب ويؤول إليه الجمل، باعتبار أن الجمل جزء مهم من ذاكرة الصحراء وصلته وعلاقته وطيدة بالإنسان العربي والبدوي على وجه خاص.
هذا قادني أن أكمل سيناريو القصة القراءة من خيالي بإقحام شخصية عربية واخترتها أن تكون شخصية إماراتية إلى جانب الشخصيات الثلاث الفرنسي والإنجليزي والألماني، ووضعت تصوري عما يمكن أن يقوله الإماراتي عن الجمل، الذي لا شك أنه سيقدم تصوراً مختلفاً وأكثر عمقاً والتصاقاً بالمعنى وأشد دراية وبلاغة عن علاقة الجمل بالإنسان فوق ما بلغته وتوصلت إليه الشخصيات الثلاث من معاني.
فالإماراتي بعقليّته المعاصرة لن ينزوي ولن ينظّر بفوقية ولن يضع تصورات غير واقعية أو غير قابلة للتطبيق، بل ولأنه مؤمن بفكرة البناء، بناء الحياة وصناعتها، والتواصل الحضاري والتشاركية مع الآخر واستئناف الحضارة، واقتناص الالتماعات واستثمارها، وتحقيق النتائج، ومدرك للقيمة التراثية والثقافية للجمل ولعلاقته الوجدانية به، ولأنه صاحب طموح وتشغله فكرة الابتكار فإنه لا محالة سينظر إلى الجمل كتراث يستوجب نقله من فكرة الرمزية إلى فكرة المشروع والإنجاز والاستدامة والمستقبل كأن يفكر كيف يمكن أن يصل به إلى المريخ أو يحوّله إلى مركبة فضائية يقطع بها على غرار أسلافه المسافات الضوئية المستحيلة ليصل إلى هدفه، أو كيف يمكن أن يجعل الجمل يفكر بطريقة الذكاء الاصطناعي ويضيف عليها لمسته الشاعرية ويطورها، أو أن يبني - ليس للجمل - بل للذكاء الاصطناعي مربضاً، تماماً كما فعل في بناء أول مجمع للذكاء الاصطناعي في العالم خارج الولايات المتحدة الأمريكية!
وهنا معقل الجمل، أي أن «الجمل بما حمل» هو الذكاء الاصطناعي، بلغة العصر، فإذا كان فلاسفة الغرب في السابق انشغلوا بإنتاج الحداثة واستفادوا من ماهية الشرق وحكمة الشرق وفلسفة الشرق، وخرجوا بالحداثة، فاليوم الشرق (متمثلاً في الأنموذج الأهم من دوله وهي دولة الإمارات) منشغل بكتابة وصناعة المستقبل بالتعاون والتشاركية مع الغرب من خلال الذكاء الاصطناعي، وهكذا هي المعرفة في التاريخ البشري متداولة.
ولأن الجمل والذكاء الاصطناعي يعبران الزمن والمكان في سرعتين ثقافية وضوئية، ويعبّران في رمزيتهما عن ثنائية الأصالة والحداثة ففكرت في الجمع بينهما وهذا قادني إلى وضع تصور فلسفي وهذا كل ما أستطيع تقديمه على الأقل في هذه المرحلة من عمري أي أن أتفلسف وأنا هنا قد أتفق مع أفلاطون الذي كان يرى أن الحكماء لا يتفلسفون (لأنهم ليسوا بحاجة إلى الفلسفة).
لقد وجدتني أربط التراث في رمزيته الجمل بالذكاء الاصطناعي، وتساءلت بيني وبين نفسي كيف يمكن أن نستفيد من الذكاء الاصطناعي في حفظ وصون التراث وفي الثقافة والفنون، وكيف يمكننا الاستعانة بالذكاء الاصطناعي للنهوض بالتراث وتنقيحه والدفع به نحو المستقبل.
وهنا: أقصد التراث الثقافي الوطني لدولة الإمارات بعيداً عن مصطلح التراث الذي يشار إليه في السرديات الدينية كما هو الحال في كتاب (صخرتا الزمن العلم والدين، لمؤلفه ستيفن جاي جولد وترجمة محمد عصفور ) بل في نطاق التراث الوطني المتمثل في تراث أبوظبي عاصمة دولة الإمارات وحاضرة عصرها، التي تقود الحواضر العربية وتشارك تقاليد عملها مع الغرب، وبما تمثله كسادنة لثقافة الشرق، كل الشرق.
هذا التراث الأصيل والزاخر والثري، والذي من وجهة نظري يستحق المزيد من العناية والاهتمام وما من بأس في قول أيضاً الحاجة إلى تنقيحه ثم إلى دمجه في الحياة العامة وخاصة الحياة اليومية للإنسان الإماراتي؛ بمعنى أن يصبح هذا التراث خبزاً يومياً وإكسير حياة، ونمطاً وسلوكيات قيمية في كل التفاصيل والشؤون، ونقله إلى الأجيال، وأن نقدم هذا التراث في قوالب حداثية تحافظ عليه ولا تفرغه من جوهره ولا تتنصل من ردائه بل تعزز مظهريته وتظهر جواره وأشكاله وأنواعه.
أعتقد أن هناك فرصة مواتية أن يتم ربطه بالحاضر من خلال التكنولوجيا أي أن يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً في حماية وحفظ التراث وإحيائه وبعث ما فني منه واستخلاص مضامينه بدراسته ودراسة ماضي الألى ونظم حياتهم في السابق واستدعاء محصلات تجاربهم وحكمهم وموروثاتهم، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي وإن كنت أرى في الوقت الراهن على الأقل أن الذكاء الاصطناعي مازال غير مؤهل في التعاطي مع التراث، إلا إذا توفرت خطة عمل محكمة من خلال العقل البشري الذي سيحدد له الطريقة والطريق والوجهة، إذ لا بد من تغذية الأوعية التقنية والرقمية بجواهر ولآلئ التراث ورفد الشبكة العالمية بالكتب وبالموسوعات التراثية من خلال مشروع مقروء وبصري ضخم، أي إطلاق موسوعات تتضمن كل ما له صلة بتراث وثقافة دولة الإمارات بشكل عام وأبوظبي على وجه خاص، ونشر كل ما له صلة بدراسات التراث والعلاقات الاجتماعية، وتغذية الأوعية بكل ما يمكن أن يسهم في نقل السردية الثقافية التي تفسر إنسان هذا المكان وطموحاته بكل أزمنته وعصوره وإتاحة كل ذلك على الشبكة العالمية.
إن التراث بنبعيه المادي والشفاهي مركبان رئيسيان من التركيبات الجوهرية للإنسان، فالتراث جزء مكون لطبيعة الحياة وركيزة من ركائز البناء ومنبع من منابع الوعي ويكتنز خلاصات التجارب منذ الماضي وصولاً إلى الحاضر، وكثير منه مكون لمعتقداتنا ومكون رئيسي لحقيقتنا.
وعليه أرى أن استخدام الذكاء الاصطناعي في مشروعات وطنية لها صلة مباشرة بتوثيق التراث وبالثقافة والشعر واستكشاف موروثات إنسان هذا المكان والزمان والذاكرة في هذا النطاق المهم من العالم هو أمر جوهري، وكل ما بدأنا مبكراً، استطعنا المضي في دراسة استيطان إنسان هذه الأرض الأول القديم والمعاصر، ومن ذلك الحفاظ على اللهجة الإماراتية بكل تنوعاتها الفرعية والدقيقة وتطورها.
إن الذكاء الاصطناعي وسيلة وأداة مهمة لتوثيق الذاكرة ولاستدعاء وجمع التراث من الكتب العتيقة والخزائن والمتون ومن الصدور وما اكتنزته ذاكرة الشعر والأمثال وصناديق الكلام الأول، وما لمعت به المخيلة مع أهمية تنقيحه من الشوائب وما دخل عليه بسبب التلاقح والتفاعل والتحولات الاجتماعية.. واستخلاصه.
كل ذلك سيسهم بالتعريف بالإنسانوية (أي مجموعة وجهات النظر الفلسفية والأخلاقية التي تركز على قيمة وكفاءة الإنسان) التي تقوم على العلمية لا الفرضية، وهذا سيسهم في تعزيز التعريف بسرديتنا الثقافية ونسقنا الفكري وخلقنا الثقافي وجعل قيمنا هي الرافعة التي تعلي كل ذلك.
إن تراث دولة الإمارات جذوره ضاربة في الأرض وفي الأرواح وفي السلوكيات ويستدل على ذلك بالقيم أولاً وبالعادات والتقاليد والأعراف، وهو تراث عميق وعظيم ويضم كنوزاً وخلاصات خالصة خلّصة ونادرة، تحتاج إلى رصد وجمع وتوثيق، وحتى لا نفاجأ بعد فترة وجيزة من يقظتنا الحضارية على صدمة أن ما هو موجود في الشبكة العالمية لا يمثل تراثنا الحضاري الحقيقي، إلا بنسبة ضئيلة جداً، وبالتالي أرى أن العمل المبكر بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي سيساعدنا في حفظ هذا التراث وإحيائه بل وسيساعدنا في ربط إنساننا بتراثه من جهة وبرمز الحداثة وأبهتها أي الذكاء الاصطناعي.
إن الشعر هو العمود الفقري للتراث الإماراتي وهو منبع لكل الفنون الشعبية والأهازيج والتقاليد وهو الحافظة لكل القيم والأعراف وهو جوهر الأصالة وهو اتجاه ذوقنا الفني وموسيقانا وأمثالنا وجمالياتنا وآثارنا الفنية، وإلى جانب الكنوز الشعرية التي خلّدتها الذاكرة الشفاهية والتي تمثل أزيد من ثلاثمائة عام من ذاكرة المكان الحية، تمثل باكورة تراث أبوظبي من أسماء ونتاجات كثيرة وكثيرها شفاهي لا يمكن أن تحصى جميعها إلا أنه يمكن جمعها من خلال مشروع دولة، كما أنه من المهم الاستفادة من تراث الحاضر الكبير في الوجدان الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، مؤسس دولة الإمارات، الذي حدد بوصلة كل اتجاه فيها ومستقبلها لما لا يقل عن مائة عام قادمة على أقل تقدير.
وهناك قراءات غير تقليدية بل ومعمقة مستلهمة من تجربته الشعرية يمكن الاستفادة منها والاستلهام من عبقريته وحذاقته في كل ما يخص شأن الإنسان والهوية والتراث فقد ضمّن طيب الله ثراه في أشعاره العديد من المعاني البكر التي يمكن أن نحفر من ينابيعها جداول جديدة وأن نولد منها أفكاراً مضيئة ومشروعات إبداعية تحفظ تراث أبوظبي وتحفظ لهجات أهلها، اللهجة الأصيلة الأصلية الرائعة والقوية والحيوية غير المنحدرة من التقليد، والنموذجية في كنهها وجرسها الموسيقي ولكنتها، والتعمق في مكنوناتها ومكامنها لأنها تستحق أن تقلّد وأن تتأمل فهي قادرة على التمدد والتأثير، وفي الاعتناء بها وتنقيحها والمباهاة بها ونشرها بما يجعلها قوة ناعمة ليس عربياً فحسب بل كونياً أيضاً.
إن أهم وظيفة للتراث هي الحفاظ على الهوية الأولى، ومن استعمالاته - أي التراث - تجذير الهوية الوطنية في معناها الجوهري وشكلها وصميمها، وإبراز مظاهرها من خلال هذا التراث نفسه وفي جعل الخصوصية القيمية والسمة الثقافية عاملين معبرين حقيقين عن حياتنا ونمطنا ربطاً بالماضي والحاضر والمستقبل، وجعل ظروف عصرنا وما نملك من علوم وتقانة متقدمة متوافقة مع هذا التراث شرط أن لا نتعامل مع التراث باعتباره ماضيا بل باعتباره جوهر الحاضر ولا أقول عربة، بل قاطرة من قاطرات مستقبلنا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة