ليس من السهل العثور على طريق يفضي إلى حل وسط، سواء داخل بلدك أو خارجها، لكن هذا ما حدث في كولومبيا مؤخرا في اتفاق السلام الذي أنهى حرب عصابات الشوارع التي دامت 52 عاما، وكانت القيادة السياسية الرشيدة هي من فتحت الطريق.
ليس من السهل العثور على طريق يفضي إلى حل وسط، سواء داخل بلدك أو خارجها، لكن هذا ما حدث في كولومبيا مؤخرا في اتفاق السلام الذي أنهى حرب عصابات الشوارع التي دامت 52 عاما، وكانت القيادة السياسية الرشيدة هي من فتحت الطريق.
وجاء توقف عجلة الحرب وتبادل الاتهامات ليعطي الطرفين الفرصة لتوقيع اتفاق من المتوقع أن يقره الشعب الكولومبي في استفتاء (لم يقَّر الشعب الكولومبي الاتفاق الذي جرى يوم الأحد الماضي – المحرر).
والآن دعونا نقارن بين هذا الاتفاق الذي توصلت إليه حكومة مسؤولة، وبين الإجراء الأشبه بإطلاق النار الذي صدر عن الكونغرس الأميركي الأربعاء الماضي لإبطال فيتو الرئيس أوباما لمشروع قانون يسمح لعائلات ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر بمقاضاة السعودية، وطلب تعويضات. فالتصويت لصالح عائلات ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر وضد السعودية، أثبت أنه صفقة لا تقاوم في العام الانتخابي الحالي، حسبما أظهر تصويت مجلس الشيوخ على مشروع القانون بنسبة 97 إلى 1.
لكن في جميع الأحوال ما كان يجب التصويت على مشروع القانون المذكور، ناهيك عن إلغاء الفيتو. ففي غمرة سعادته بانتقامه من السعودية بأثر رجعي، وجد الكونغرس حلا وسطا يلتف به على مبدأ منع مقاضاة الحكومات في المحاكم الأجنبية. فلو أن دولا أخرى نهجت نفس النهج، فسوف يتعرض الجنود والدبلوماسيون الأميركيون في الخارج للخطر في كل مرة يدخلون فيها دولة ترى أن الولايات المتحدة قد قتلت مواطنيها بغير حق، أو ارتكبت «جرائم حرب».
فالرئيس أوباما ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي.إي.إيه)، جون برينان، توسلا إلى الكونغرس بالفعل لكي لا يلغي الفيتو، لكن دون جدوى. لكن قادة مجلس الشيوخ أفادوا بأنهم ربما يفكرون في تحديد تشريع لتحجيم نطاق مشروع القانون، في حال تسبب في إثارة ردود فعل دولية قوية.
ربما أصبحنا نعيش في دولة يذهب فيها الكونغرس إلى حافة الجرف قبل أن يفكر في ارتداء مظلة الهبوط.
هذا بالضبط كان الحال عند مناقشة موضوعات الموازنة، والآن نفس الشيء يحدث في العلاقات الخارجية.
دعونا نعود إلى كولومبيا للاستفادة من درس كيف أن السياسة الرشيدة تساعد أحيانا على التقارب. فسر اتفاق السلام الموقع مع «الجيش الثوري الكولومبي» تمثل فيُقدرة الرئيس سانتوس على إيجاد مساحة للمصالحة مع قادة الجيش الثوري، بدلا من الإصرار على استسلامهم. فكما يعرف أي متفاوض، فإن الاتفاقات الناجحة هي تلك التي تسمح لكل طرف أن يصون كرامته واحترامه لنفسه. وغالبا ما يصر الساسة على الوصول للانتصار الكامل، حتى وإن كانت النتيجة العملية هي الوصول إلى طريق مسدود.
شعر سانتوس، وهو وزير دفاع سابق، بأنه يملك من القوة ما يجعله قادرا على تجاهل الحسابات السياسية، وقرر منح المتردين مقاعد في البرلمان الكولومبي وفرصة في الوجود على الأرض في مرحلة «العدالة الانتقالية». لكن ليس جميع الكولومبيين بهذا الكرم، حيث رفض الرئيس السابق ألفارو أوريب نفس الصفقة.
تلعب الولايات المتحدة دورا في قصة المصالحة الكولومبية بأسلوب يذكرنا بالسياسية الرشيدة، رغم أن الكونغرس لا يظهر لنا غير وجهه القبيح. فقد ساعدت الولايات المتحدة بوغوتا في التغلب على تمرد جماعة «الجيش الثوري» منذ بداية حقبة التسعينات، تحديدا بعدما أطلقت إدارة الرئيس كلينتون «خطة كولومبيا». كذلك أدى الدعم الأميركي المتواصل للحليف الكولومبي على مدار ثلاث إدارات أميركية متعاقبة لإضعاف «الجيش الثوري» للدرجة التي جعلت من السلام أمرا ورادا.
كولومبيا كانت دوما على النقيض من حال الشرق الأوسط الشبيه بعربة الملاهي؛ إذ اتسمت الحالة الكولومبية بالاستدامة والتماسك، والنهج المحدود الذي استخدم جميع امكانيات القوة الأميركية العلنية والسرية للوصول إلى النتيجة الصحيحة.
عمل أوباما على تسهيل المراحل النهائية من مفاوضات الصلح مع كوبا، وعندما رفع أوباما العقوبات المفروضة على كوبا، بات الصلح ممكنا للكولومبيين. ولم تكن مصادفة أن محادثات السلام جرت في هافانا، فأثناء سفري الأسبوع الماضي في أميركا اللاتينية مع وزير الخزانة الأميركي، جاك ليو، رأيت كيف أن الانفتاح الأميركي على كوبا خلق حالة سلام أكبر، والمفارقة أن هذا ما حدث أيضا للساسة المركزيين.
إن السياسية الرشيدة تصبح مستحيلة، عندما يعمل الساسة على درء حالة الخوف العام، ويعجزون عن التخلي عن التحامل، فدائرة التصالح العفيفة والإصلاح التي نراها في كولومبيا تعود بالنفع على الجميع بمجرد أن تحصل على الزخم. لكن قبل أي شيء، على القادة الأقوياء التصدي لسياسة النفعية، فقد اتضح مما رأيناه في الكونغرس الأسبوع الماضي أنه على الرغم من شعبية تلك السياسة، إلا أنها قصيرة النظر.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة