من الممكن جدا أن تقل درجة الفقر في بلد ما، ولكن تزداد في الوقت نفسه حدة الشعور بالحرمان. أن يصبح الناس أقل فقرا ولكن أشد معاناة منه.
من الممكن جدا أن تقل درجة الفقر في بلد ما، ولكن تزداد في الوقت نفسه حدة الشعور بالحرمان. أن يصبح الناس أقل فقرا ولكن أشد معاناة منه.
وأنا لا أشك في أن هذا وذاك قد حدثا بالفعل في مصر (وفي بلاد كثيرة غيرها) خلال الأعوام السبعين الماضية. فخلال هذه الفترة حدثت أشياء كثيرة من شأنها أن تقلل من درجة الفقر ولكنها أيضا تزيد الشعور بالحرمان.
أما عن تقليل درجة الفقر، فقد انتشر عقب الحرب العالمية الثانية الكلام عن ضرورة النمو أو التنمية الاقتصادية في البلاد المتخلفة، أي رفع معدل نمو الدخل القومي بالمقارنة بمعدل نمو السكان، وهو ما لابد أن ينعكس في زيادة نصيب الفرد من السلع والخدمات، أي تقليل درجة الفقر، وهذا هو ما حدث بالفعل في مصر (وغيرها)، فتضاعف متوسط الدخل الحقيقي عدة مرات خلال الأعوام السبعين الماضية. نعم كانت هناك فترات أفضل من غيرها في هذا الشأن، ولكن كان من النادر أن تمرّ مصر بفترة يقل فيها معدل الزيادة في الدخل القومي عن معدل الزيادة في السكان. (من هذه الفترات النادرة السنوات القليلة التالية للهجوم العسكري الإسرائيلي في 1967، وبعض السنوات التالية لثورة يناير 2011).
ولكن حدث أيضا في الخمسينيات والستينيات، اتجاه ملحوظ في السياسة الاقتصادية نحو إعادة توزيع الدخل لمصلحة الطبقات الفقيرة، مما أدي أيضا إلي تخفيض درجة الفقر، بصرف النظر عما حدث لمتوسط الدخل في البلد ككل. بالإضافة إلي هذا الاهتمام المتعمد بالنمو وبإعادة توزيع الدخل، حدثت أيضا أشياء أدت إلي تخفيض درجة الفقر دون أن تكون بالضرورة جزءا من السياسة الاقتصادية، أهمها زيادة فرص الهجرة إلي دول النفط الغنية.هذا عن انخفاض درجة الفقر، فماذا عن الشعور بالحرمان؟..
إن من السهل قياس درجة الفقر، ولكن كيف نقيس درجة الشعور بالحرمان؟ الأولي تتعلق بحساب ما في الجيب، بينما تتعلق الأخري بما يحدث في القلب.
حدثت أشياء كثيرة أيضا خلال الأعوام السبعين الماضية جعلت الفقراء أكثر شعورا بالحرمان، بصرف النظر عما إذا كانوا قد أصبحوا أكثر أو أقل فقرا، أي حدثت أشياء كثيرة، ربما لم تقلل ما في جيوب الناس، ولكنها أدمت قلوبهم.
فما هي هذه الأشياء بالضبط؟..
إن الحراك الاجتماعي السريع نفسه من شأنه أن يحدث هذه النتيجة: أن تري البعض ممن كانوا بجوارك حتي الأمس القريب أصبحوا أكثر ثراء منك. فتتساءل عما إذا كان فيك أنت عيب منعك من الحصول علي ما حصلوا عليه. بل وتري من كان أعلي مقاما منك بالأمس القريب فأصبح مثلك أو أقل منك، فتشعر بالخوف الشديد من أن يصيبك ما أصابه.
إن هذا أو ذاك يجعلك تزيد التفكير في الأمر، ويصيبك بالحسرة علي ما أنت فيه من حرمان أو بالخوف من الوقوع فيه.
في مثل هذا المناخ يضعف بشدة الميل القديم إلي «الرضا بالنصيب»، وهو ميل توارثناه من عهود طويلة من السكون والركود، ليس معني هذا بالضرورة أن يقل التعبير عن هذا الرضا بالنصيب، وذكر مزايا الصبر وعيوب الطمع، ولكن الكلام شيء والشعور الحقيقي قد يكون شيئا آخر. وقد لمست كيف حدث هذا التغيير في مصر في موقف الفقراء وفي طموحاتهم، من أيام طفولتي وصباي إلي أيامنا الحالية.
من المؤكد أيضا أنه قد حدث تغيير كبير، أدي إلي نتيجة مماثلة، في نظرة الفقراء إلي مستقبل أولادهم وبناتهم.
مازلت أذكر جيدا كيف كان كل صاحب مهنة أو حرفة، مهما كان تواضعها وقلة دخله منها، لا يذهب خياله إلي حد تصور أن ابنه يمكن أن يشتغل بحرفة أخري في المستقبل وتدر عليه دخلا أكبر، ناهيك عن أن يتصور أن ابنته يمكن أن تدخل الجامعة وتصبح نتيجة لذلك موظفة في الحكومة أو في شركة. ما أجمل هذه التطلعات والطموحات، ولكن ما أقسي الشعور بالحرمان إذا فوجئت، وأنت في منتصف الطريق، بوجود عقبة كأداء تمنعك أو تمنع أولادك من الاستمرار، كأسعار الدروس الخصوصية مثلا، أو شيوع البطالة حتي بعد التخرج.
الحراك الاجتماعي السريع يفعل ذلك، وكذلك التعليم، ولكن يفعله أيضا مجرد الجلوس أمام التليفزيون وكثرة السلع المعروضة في الأسواق، ورؤية السلع التي أتي بها من قضي فترة في الخارج. هناك شيء آخر يفت في عضد الجميع، ويزداد انتشاره في العالم كله، وهو الاختفاء السريع للسلع والخدمات التي كان من الممكن الحصول عليها دون نقود. لقد كنا نعرف دائما أن الفقر في الريف أقل وطأة بوجه عام منه في المدن، بصرف النظر عن حجم الدخل، وذلك لأن من الأسهل نسبيا الحصول علي سلعة أو خدمة مما نحتاجه في القرية دون شرائها بالنقود.
ولكن لاحظت، خلال الأعوام السبعين الماضية، كم استفحل الأمر في المدينة والقرية علي السواء. إن من الصعب الآن، أكثر فأكثر، أن تلبي حاجة من حاجاتك دون أن تكون مستعدا لها بمبلغ من النقود. فإذا اقترن هذا بشيوع البطالة، زاد عدد الفقراء الذين يخترعون الخدمات اختراعا، مما قد لا تكون لديك أي حاجة إليه، في مقابل الحصول علي نقود. يختلط هنا القيام بخدمة بالقيام بالشحاذة، وتختلط بالتالي عمليات الشراء بأعمال الاحسان. وفي الوقت الذي يرتسم منتهي الملل والسأم علي وجوه أصحاب النقود ترتسم تعابير المذلة والبؤس علي وجوه المحتاجين إليها.
في مثل هذه الظروف يكثر لجوء أرباب العمل إلي «توظيف» رجال ونساء دون أي التزام بدفع أجور لهم، إذ يخيرونهم بين الاعتماد الكامل علي البقشيش، أو عدم توظيفهم أصلا. ويقبل الرجل أو المرأة ذلك، علي أمل أن يتفننا في ابتداع وسائل لاستدرار النقود من الزبائن، دون أن يقدما لهم في الحقيقة أي شيء في مقابلها. إن مثل هذا يدخل بالطبع فيما تسميه التقارير الاحصائية الدولية «بالاقتصاد غير الرسمي»، الذي قدّره تقرير صادر في 2012 عن برنامج الأمم المتحدة الانمائي (UNDP)، بأكثر من 60% من الوظائف التي تم إيجادها في مصر في السنوات الأربع السابقة علي ثورة 2011. فإذا حاول بعض أفراد هذا «القطاع غير الرسمي»، التفكير في طريقة أخري لمواجهة هذه الحالة، وقبلوا الركوب في مركب متهالك، ولو بحمولة تزيد بعدة أضعاف عن حمولته الآمنة، علي أمل العثور علي فرصة أفضل علي الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، كان احتمال غرق كثيرين منهم في الطريق أكبر بكثير من احتمال وصولهم إلي مبتغاهم. وهذا هو ما حدث بالفعل منذ أيام قليلة أمام ساحل مدينة رشيد.
نقلًا عن صحيفة الاهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة