فرنسا خارج ساحل أفريقيا.. تشاد تضع نقطة النهاية
ضربة جديدة تتلقاها فرنسا بإعلان تشاد إنهاء التعاون الدفاعي معها، في خطوة تجرد باريس من آخر قلاعها الحصينة في ساحل أفريقيا.
فبعد انسحاب فرنسا من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، يبدو أن البوصلة تتجه اضطراريا إلى تشاد، البلد الأفريقي الذي ظل حتى الآن آخر نقطة ارتكاز لها في منطقة الساحل الأفريقي.
ولا يزال مئات الجنود منتشرين في هذه المستعمرة السابقة، حيث حافظ الجيش الفرنسي على وجوده فيها منذ نحو 40 عاما، لكن بعد إعلان نجامينا، سيتعين على هؤلاء حزم أمتعتهم.
وفي قراءات منفصلة لـ«العين الإخبارية»، اتفق خبراء على أن القرار يضع نقطة نهاية للوجود الفرنسي في تشاد، وبالتالي في آخر «حصون» باريس بساحل فرنسا، معتبرين أن الخطوة «مدروسة» من جانب نجامينا.
كما رأوا أن القرار يأتي ضمن توجه إقليمي بالمنطقة يقطع مع الوجود الفرنسي ويحاول صياغة تحالفات جديدة تتماشى مع خصوصية المرحلة وتحولات القارة السمراء.
نقطة نهاية
في قرار شبه مرتقب، أعلنت الخارجية التشادية في بيان صدر، الخميس، أن الحكومة أنهت اتفاقها للتعاون الدفاعي مع فرنسا، في خطوة ستتطلب من القوات الفرنسية مغادرة البلاد.
وأضاف البيان أن تشاد، وهي حليف رئيسي للغرب في الحرب ضد الإرهابيين بالمنطقة، تتطلع لفرض سيادتها بشكل كامل بعد 66 عاما من الاستقلال.
ولفت إلى أن قرار إنهاء اتفاق التعاون الدفاعي المعدل عام 2019 من شأنه أن يمكن نجامينا من إعادة النظر في شراكاتها الاستراتيجية.
وجاء في البيان "وفقا لبنود الاتفاق، ستلتزم تشاد بشروط الإنهاء بما في ذلك المواعيد النهائية اللازمة، وستتعاون مع السلطات الفرنسية لضمان انتقال سلس".
وشدد على أن القرار لا يقوض بأي حال من الأحوال علاقات تشاد مع فرنسا، فيما كان وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في تشاد باليوم نفسه، وزار الحدود مع السودان.
وتعاونت تشاد بشكل وثيق مع الجيوش الغربية في الماضي، لكن تقاربها ازداد مع روسيا بالسنوات الأخيرة.
وبخلاف القوات والقواعد الفرنسية الموجود في تشاد، كانت الأخيرة مقرا جديدا للقوات الفرنسية التي خرجت من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وكما هو معلن فإن فرنسا حاليا تنشر نحو ألف عسكري وطائرات حربية في تشا، إضافة لعدد من القواعد العسكرية.
ويأتي الإعلان التشادي بإنهاء التعاون الدفاعي مع فرنسا في مرحلة دقيقة يمر بها البلدان، فتشاد تعاني من مشاكل داخلية وتمرد وإرهاب، أما باريس التي تعاني من تقلص في نفوذها في منطقة الساحل الأفريقي، فتفقد أهم محطة لها على الإطلاق وهي نجامينا.
وليس ذلك فقط، إنما تدرس السنغال أيضا خروج القوات الفرنسية من أراضيها، حيث باتت ترفض الوجود العسكري الفرنسي.
فما الأسباب وراء اتخاذ نجامينا هذا القرار؟ وما تداعياته على تشاد من جهة وتأثيره على مستقبل فرنسا الجيوسياسي بالمنطقة من جهة أخرى؟
«خطوة مدروسة»
في قراءته للموضوع، يرى الدكتور عثمان حسب الله، رئيس المنسقية الوطنية للناطقين بالعربية في تشاد، أن العلاقات التشادية الفرنسية استراتيجية نتيجة للموقع الجغرافي وقوة الجيش التشادي ومحاربته للإرهاب.
ويقول حسب الله، في حديث لـ"العين الإخبارية": "لذلك أصبحت تشاد مهمة لفرنسا، وكذلك السنغال تعد شريكا اقتصاديا بارزا وبعدا استراتيجيا مهما لفرنسا في علاقتها بأفريقيا".
وأوضح أن قرار إنهاء اتفاقية الدفاع مع فرنسا أمس يصادف العيد الوطني لاستقلال تشاد عن فرنسا في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1960.
ورأى أن "هذه الخطوة كانت مدروسة، وسبقتها خطوات من التقارب مع روسيا، وتأتي أيضا نتيجة لتأزم العلاقات بعد الهجوم الأخير لجماعة بوكو حرام والذي راح ضحيته العشرات من الجيش التشادي".
وبحسب الخبير، فإنه مع وجود 12 قاعدة عسكرية في تشاد، 7 منها معلنة، ومع وجود اتفاقية الدفاع المشترك، لم تحرك فرنسا ساكنا، مشيرا إلى أن أحد مطالب الحوار الوطني في تشاد، كان مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا.
وخلص إلى أن "القرار يأتي إيفاء لوعد الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي قطعه خلال الحوار الوطني".
أسباب
أما بخصوص الأسباب، فأرجعها الخبير التشادي بالأساس إلى الهجوم الأخير لبوكو حرام في بحيرة تشاد.
وقال إن ماحدث في مالي وبوركينا فاسو والنيجر كان دافعا قويا لزيادة النفور من الوجود الفرنسي، وتعالت أصوات الشعب التشادي بضرورة طرد فرنسا والاستقلال الكامل عنها.
وأشار إلى "وجود اتفاقات مجحفة بين فرنسا وتشاد أفرزت سيطرة وضغط على القيادة"، معتبرا أنه "بفقدان فرنسا لتشاد والسنغال، فإنها تفقد وجودها نهائيا في أفريقيا".
وتطرق إلى "كراهية الشعوب للاستعمار الفرنسي"، متوقعا حدوث تهديدات أمنية على تشاد نتيجة هذا القرار، حيث قد تسعى فرنسا لزعزعة الاستقرار عبر الترتيب لمحاولات انقلابية، أو دعمها للمجموعات الإرهابية.
وأكد أن "فرنسا في وضع صعب وخياراتها ضيقة".
«نقطة تحول»
من جهته، اعتبر الدكتور رامي زهدي، الخبير المصري في الشؤون الأفريقية، أن إعلان تشاد إنهاء تعاونها العسكري مع فرنسا، وطلبها إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها، يشكل نقطة تحوّل في علاقة فرنسا مع واحدة من أبرز دول الساحل الأفريقي.
وقال زهدي لـ"العين الإخبارية"، إن "هذا الإعلان يحمل أبعادًا سياسية واستراتيجية تتجاوز تأثيره المحلي ليعيد تشكيل المشهد الأفريقي والعلاقات الفرنسية مع القارة السمراء".
وأضاف أن تشاد تاريخيًا تعتبر واحدة من أكثر الدول التي اعتمدت على فرنسا في المجالين العسكري والسياسي.
ومنذ استقلال تشاد عام 1960، يتابع، ظلت باريس تلعب دور الحامي للشأن الأمني التشادي، خاصة في ظل عدم الاستقرار الداخلي وتنامي التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل.
ومستدركا: "ومع ذلك باتت الأصوات المعارضة للوجود الفرنسي تتزايد في السنوات الأخيرة، نتيجة لتراجع الثقة الشعبية في نوايا فرنسا وقدرتها على تقديم حلول مستدامة للأزمات الأفريقية".
ولفت الخبير المصري إلى أن "هذا القرار يعكس تصاعد التيار السياسي الذي يطالب بالتحرر من النفوذ الفرنسي، ويأتي متماشيًا مع موجة من المواقف المماثلة التي شهدتها المنطقة، كما حدث في مالي وبوركينا فاسو".
وبالنسبة له، فإن "إعلان تشاد إنهاء علاقتها العسكرية مع فرنسا ليس مجرد حدث عابر، بل هو مؤشر على تحول جذري في علاقة أفريقيا مع القوى الاستعمارية السابقة".
«ضربة جديدة»
وأوضح الخبير المصري أن انسحاب فرنسا من تشاد يشكل ضربة جديدة لاستراتيجيتها في منطقة الساحل، حيث ظلت فرنسا تعتمد على قاعدة تشاد كمحور لعملياتها في مواجهة الإرهاب.
وأوضح أنه "مع تقليص وجودها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، يبدو أن نفوذها التقليدي يتعرض لتراجع كبير، ما يضعف قدرتها على حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية في ساحل أفريقيا".
وتوقع أن يؤدي انسحاب فرنسا إلى خلق فراغ أمني قد تسعى أطراف دولية أخرى لملئه، مثل روسيا والصين، خصوصا أن موسكو باتت، من خلال مجموعة فاغنر وغيرها، تُظهر حضورًا متزايدًا في الدول الأفريقية التي تطالب بالتحرر من النفوذ الفرنسي.
وأشار إلى "تعرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لضغوط داخلية متزايدة بسبب الانتقادات الموجهة لفشل فرنسا في الحفاظ على علاقاتها الأفريقية وتعزيز دورها كمحور استقرار في المنطقة".
ووفق الخبير، فإنه "من المتوقع أن تستغل المعارضة الفرنسية هذه التطورات لإظهار ضعف استراتيجية ماكرون الخارجية".
إعادة النظر
بدوره، رأى الدكتور محمد تورشين، الباحث السوداني في الشؤون الأفريقية، أن إنهاء الاتفاقية جاء في إطار الاستراتيجية الجديدة التي ستتبعها فرنسا في القارة الأفريقية.
وقال تورشين لـ"العين الإخبارية"، إن فرنسا وفق تصريحات مسؤوليها ستعيد النظر بوجودها في القارة دون الإفصاح عن تفاصيل.
ورجح أن تركز فرنسا بالفترات المقبلة وجودها في جيبوتي وكوت ديفوار والغابون، مشيرا إلى أن "فرنسا وعت الدرس تماما، وربما تعيد النظر في كل الاتفاقيات ذات الطابع التقليدي".
وبحسب رؤيته، فإن فرنسا تريد معالجة الأخطاء التي استطاعت من خلالها روسيا أن تتوغل في أفريقيا، وقال إن المسألة لا يمكن قراءتها من زاوية تصفير الوجود الفرنسي.