العراق منخور بالفساد، إلا أن نجاته ما تزال ممكنة.
ليست معضلة الكهرباء وحدها هي التي تقول كم أن الفساد بات يغمر كل تفاصيل الحياة في العراق.
مئات المليارات من عائدات النفط تبددت منذ أن سطت المليشيات الموالية لإيران على الدولة ومؤسساتها لتفرض نظاما جديدا للقيم يقوم على النهب والتحايل ومحاباة إيران على حساب العراق.
والكهرباء هي الشيء الظاهر فقط، لأنها "سلعة" من سلع الاحتياجات الأساسية اليومية، التي يشعر بحضورها أو غيابها كل الناس.
تشير التقديرات المعلنة إلى أن نحو 600 مليار دولار فُقدت من الحسابات العامة، أو تبددت على مشاريع وهمية أُلزمت لشركات تابعة للحرس الثوري الإيراني، من بين نحو 1500 مليار دولار هي إجمالي عائدات العراق من النفط منذ عام 2003.
بينما لم تؤد أعمال الفساد المتعلقة بالكهرباء إلى فقدان أكثر من 80 مليار دولار منذ ذلك العام.
الرقم يظل خرافيا. لأن 80 مليار دولار كانت تكفي لبناء ما لا يقل عن أربعة مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، تكفي اثنان منها لتغطية كل احتياجات العراق.
وأكثر خرافية من هذا الرقم، مئات المليارات الأخرى التي تحولت إلى مصدر تمويل رئيسي لإيران، وأفسدت كل المعنى من وجود العقوبات الاقتصادية ضدها.
من نافل القول الآن، إن العراقيين كانوا هم الضحية الأبرز لنظام المليشيات الذي أقامته إيران في العراق لنهب هذا البلد وتدمير مقدراته.
ولكن الإيرانيين أنفسهم لم يستفيدوا من تلك المنهوبات، وذلك لأن نظام مليشيات مماثل هو الذي ظل يهيمن على مقدرات البلاد هناك. وبحكم طبيعته هذه، فإن ما تستولي عليه مليشيا، إنما يدور في دوائرها، ولا يتحول بالضرورة إلى خدمات عامة.
الآن وقد أصبحت أعمال النهب والتخريب فضيحة عامة، وقادت العراق إلى أن يقف على حافة الإفلاس، فإن مكافحة الفساد لم تصبح ضرورة من ضرورات البقاء فحسب، ولكنها تشير كل يوم إلى أن مدارات الفشل سوف تقوده إلى انهيار شامل.
أحد أبرز مظاهر هذا الانهيار هو أعمال التدمير المتلاحقة لأبراج الكهرباء، وفرار الشركات الأجنبية العاملة في حقول النفط، لأن أعمالها صارت هي الأخرى عرضة للتهديدات.
وفي اقتصاد يعتمد على مصدر تمويل واحد، فإن الفشل في قطاع، لا بد أن يمتد ليصبح فشلا في قطاع آخر ثم آخر، حتى لا يعود بوسع أي حكومة أن تواجه الانهيار المحتوم والشامل.
ما يحصل الآن، إنما يمضي في هذا المسار. وهو كارثي حتى على الفاسدين أنفسهم. إلا أن الإنقاذ ما يزال ممكنا. وهناك سبيلان لا بد منهما لوقف الانهيار:
الأول، هو الشفافية المطلقة للعقود والمشاريع وتوظيف الأموال، بحيث تكون خاضعة للرقابة العامة وليس لدوائر الشر المعروفة لنفوذ المليشيات في المؤسسات العامة.
والثاني، هو ملاحقة ومحاكمة حيتان الفساد، وليس حفنة من الموظفين الصغار.
هذان السبيلان متلازمان. وما لم تجرؤ السلطات على أحدهما، فإنها لن تجرؤ على الآخر.
ولكن حتى لو اقتصر الأمر على رصد ومراقبة توظيف العائدات الجديدة، فإن البداية يمكن أن تظل ممكنة.
ماذا يعني ذلك من الناحية العملية؟
إنه يعني طرح عقود لإعادة البناء، تخضع ليس لإشراف عصابات النهب أو ممثليها في مؤسسات الدولة، لتتم في غرف مغلقة، وإنما لإشراف عام، بحيث يشارك الناس في رقابتها والتدقيق فيها، من خلال النقاش المفتوح، عبر كل وسائل الإعلام المتاحة.
كل التفاصيل الفنية والمالية يتعين أن تكون مكشوفة، وكل الأسماء، وكل مراحل العمل. وما من مشروع إلا ويخضع لمناقصات ومواصفات وشروط جزائية وضمانات تنفيذ معلنة.
وحالما يُصبح بإمكان هذه الشركة أو تلك أن تكشف عن نفسها وسابق خبراتها وتجيب عن كل الأسئلة وترد الشكوك وتزيل المخاوف والتحفظات، فإن بوسعها أن تباشر أعمالها، وتظل خاضعة للرقابة العامة، حتى تنجز ما كان عليها أن تنجزه.
الضرب بيد من حديد على كل مظهر من مظاهر الفساد في هذه العقود الجديدة، سوف يكون هو السلاح الذي لا بد من استخدامه لقطع الدابر.
الكل يعرف أن مليشيات الفساد في العراق هي التي تحول دون ملاحقة ومحاكمة حيتان الأعوام الماضية. إلا أن بدايةً من نقطة ما، يمكن أن ترجئ ساعة الحساب. تُمهل من دون أن تُهمل. على الأقل، لتعطي البلاد متنفسا وفرصة للنجاة.
دون ذلك، فإن الانهيار الشامل هو العاقبة. ولن يكسب الفاسدون حتى المهلة للإفلات من العقاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة