الدعوات لمكافحة الفساد ليست جديدة في ليبيا.
وهناك سلسلة طويلة من التقارير، التي أصدرها ديوان المحاسبة، وهيئة مكافحة الفساد، والمصرف المركزي ومكتب التحقيقات لدى النائب العام، فضلا عن الاتهامات المتبادلة التي يوجهها مسؤولون كبار لبعضهم، تدل على أن هناك حملة منهجية وعامة لسرقة البلاد، تكاد تشمل كل المسؤولين في حكومة الوفاق السابقة، التي هيمن عليها إخوان ليبيا ومليشياتهم منذ سبتمبر 2015، ولا تزال قائمة حتى الآن.
العجيب، الذي لا عجب فيه، هو أن كل تلك التقارير مرت، سنة بعد سنة، دون أن تفضي إلى محاكمة مسؤول واحد. ببساطة لأن الجميع متورط، بشكل أو بآخر، بأعمال النهب، مما يجعل محاكمة أي مسؤول أمرا يثير المخاوف لدى الآخرين من أن تنكشف أوراقهم هم.
أحدث هذه التقارير دفع رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة إلى القول: "والله لن أرحم أحد إذا كان في غش، أو أن يقول أحد هذه الشركة المغاربية نصابة نصبت عليكم".
والإشارة إلى "الشركة المغاربية" تعود إلى شركة لتوريد معدات، اتضح أنها غير موجودة.
وأصل الفضيحة هو أن شركة الكهرباء الليبية أنفقت أكثر من 23 مليار دولار خلال 8 سنوات، 7 منها في ظل حكومة الوفاق، بينما ظلت البلاد تعاني نقصا شديدا في الكهرباء.
لسان حال الليبيين يقول: "سنرى إن كان هناك مَنْ سوف تتم محاسبتهم".
وليست الكهرباء سوى طرف واحد من أطراف كعكة النهب المنهجي المنظم.
الحكومة الليبية الجديدة نفسها أنفقت أكثر من 900 مليون دينار "300 مليون دولار" على قطع غيار المحطات والوحدات المولدة للطاقة، وأبرمت عقودا لتوريد الكهرباء، إلا أن واقع الحال زاد سوءا بسبب السرقات وأعمال التخريب التي ينفذها "متعاقدون" مع شركات التوريد التركية، لمنع الحكومة من استيراد الكهرباء من الدول المجاورة.
تقرير لديوان المحاسبة كشف مؤخرا عن سرقات لعشرات السيارات من الكوكبة الضخمة التابعة لرئيس الحكومة السابق فايز السراج، كما كشف تعاقدات مع شركات تموين قام بها أمراء المليشيات بعشرات الملايين من الدنانير، وأرقاما فلكية في مصروفات وزارة الداخلية، تحت عهدة فتحي باشاغا، تجاوزت 260% من ميزانيتها حتى بلغت -بحسب تقرير ديوان المحاسبة- مليارين و400 مليون دينار، وهي المصروفات المسجلة في الميزانية المعتمدة، بالإضافة إلى مليار و300 مليون دينار كالتزامات قائمة حتى 31 ديسمبر من عام 2019 "لم يُصادق عليها أو التحقق من صحتها".
كما تحول وباء كورونا إلى مناسبة أخرى لأعمال النهب، حيث جرى تخصيص أكثر من ثلاثة مليارات دولار لمواجهة الجائحة، تبدد معظمها بين المسؤولين في وزارة الصحة وجهاز الطب العسكري والبلديات.
ديوان المحاسبة نفسه، كان غارقا بالفساد، بعد أن تكشف أن هناك مسؤولين في الجهاز "يمررون معاملات مالية دون أن يكون هناك ما يقابلها في الواقع".
وهناك أكثر من 7 مليارات دينار أنفقت لشراء الأدوية والمعدات الطبية ودعم المحروقات، بينما ظل "قطاع الأدوية يعاني من نقص حاد وغلاء الموجود منها، واستمرار نقص المحروقات وارتفاع أسعارها في السوق السوداء".
الصديق "الكبير" محافظ المصرف المركزي اتهم علنا رئيس مؤسسة النفط، مصطفى صنع الله، العام الماضي، بالمسؤولية عن اختفاء مليارات الدولارات من حصيلة بيع النفط الليبي.
ويُتهم "الكبير" نفسه بإيداع مليارات الدولارات من خزائن الدولة الليبية في البنك المركزي التركي دون عوائد، لدعم الليرة التركية، كنوع من "الجزية" مقابل الدعم الذي حصلت عليه المليشيات من جانب تركيا.
وكان النائب العام الليبي أصدر "حزمة قرارات ضبط" بحق العديد من المسؤولين، بينهم صهر فايز السراج بتهمة إصدار 80 مليون دولار في "استثمارات غير مدرجة".
والمجال لا يتسع لسرد قائمة المسؤولين المتهمين بأعمال الفساد، لأنها طويلة للغاية. حتى ليتوفر الشعور للمرء أنه لا يرمي الحجر في الهواء إلا ليقع على رأس مسؤول أو مليشياوي إخواني متورط بعمل من أعمال الفساد. ولكن لا أحد منهم تعرض للمحاكمة، وهرب معظمهم بما نهبوا إلى تركيا وربما حصلوا على جنسيتها أيضا.
لاحظ أن هذا كله لا يشمل عشرات المليارات من الدولارات التي كانت هذه الجماعة تحصل عليها من جهات الدعم الخارجية. فحولت ليبيا إلى مركز نهب تاريخي لا يضارعه في جرائمه وفساده إلا مركز النهب الذي استولت عليه مليشيات إيران في العراق.
ولكن ذلك هو "الإسلام السياسي" بشقّيه، على أي حال.
واحدة من آخر الفضائح، التي كشف عنها "الدبيبة"، أن هناك ثلاث قوائم من المستفيدين من أموال الدولة، ولكن اتضح أن هناك فارقا يبلغ مليون شخص بين هذه القوائم، ما يعني أنهم مجرد أشخاص وهميين، لا تزال رواتبهم تذهب إلى أمراء الفساد وقادة المليشيات وجماعة الإخوان، التي ترعاهم وتوفر لهم الإمداد والغطاء وسبل الإفلات من العقاب.
بعد كل ذلك، يتطلع الإخوان إلى أن يعودوا إلى حكم ليبيا في الانتخابات المزمعة في 24 ديسمبر المقبل "إذا سمحت مليشيات ومرتزقة تركيا بإجرائها أصلا". فبرغم أنهم أفلسوها، فإنهم يعرفون أيضا أنها لا تزال تملك الكثير مما يمكن سرقته. كما أن الإخوان يريدون لمرتزقة تركيا أن يبقوا هناك لكي يوفروا لهم الدعم والحماية مقابل عقود النهب التي يوقعونها مع شركات تركية.
لقد دمروا بلادهم، وسرقوها، ومزقوها، وحولوا أعزة أهلها أذلاء، وما يزالون يطلبون المزيد، ولكن هل تعرف لماذا؟
لأن المال الحرام لا يشبع، ولأن المشروع السياسي الحرام لن يرضيه من الخراب إلا المزيد من الخراب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة