في 28 مايو/أيار 2025، أعلن «مجلس البرهان» تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في اتهامات استخدام الجيش السوداني لغاز الكلور ضد قوات الدعم السريع.
بدا المشهد كما لو أنه مقتطع من مسرحية رديئة الإخراج: الجنرال المتهم يعيّن لجنة من رجاله للتحقيق في جريمة وقعت تحت سلطته، وعلى أرضٍ تنزف من حربٍ عبثية.
لكنّ خلف هذا المشهد الكاريكاتوري، تتكشف واحدة من أخطر الحلقات في سلسلة طويلة بدأت قبل أكثر من ثلاثة عقود، عندما اجتاح الإسلام السياسي مؤسسات السودان ومجتمعه، وسخّر البلاد لخدمة مشروع أممي أيديولوجي ما زلنا نحصد كوارثه حتى اللحظة.
الانقلاب الذي قاده الإخوان المسلمون في يونيو/حزيران 1989 لم يكن حدثًا محليًا عابرًا، بل كان لحظة مفصلية في تاريخ التمكين الإسلامي، ليس فقط في السودان، بل في العالم الإسلامي بأسره.
من تلك اللحظة بدأ السودان يتحول إلى قاعدة خلفية لتنظيم دولي سني، التقت مصالحه لاحقًا مع الامتدادات الشيعية في طهران، حين اجتمع العدو المشترك في وجه كل من يرفض أدلجة الدولة والدين معًا.
ليس عبثًا أن يُعقد المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في الخرطوم عام 1991، بعد عامين فقط من انقلاب البشير والترابي، بحضور شخصيات من كل التيارات الراديكالية: من الإخوان المصريين إلى الجهاديين الجزائريين، من "الأفغان العرب" إلى قيادات حماس وحزب الله، كانت الخرطوم حينها "كابول العرب" قبل ظهور حركة طالبان بسنوات، تُصاغ فيها خرائط الحرب على الدولة القُطرية، ويُعاد فيها تشكيل العقل الجهادي بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان.
بعد ثلاث سنوات فقط، وفي صيف 1994، انتقلت الخرائط إلى جنوب اليمن، شارك مئات من "الأفغان العرب"، عبر السودان، في دعم الحرب التي خاضها حزب الإصلاح اليمني – فرع الإخوان المسلمين – ضد الجنوب الساعي إلى الاستقلال الثاني، الفتوى الشهيرة التي أصدرتها هيئة علماء اليمن بجواز قتال "الانفصاليين" لم تكن سوى نسخة يمنية من مشروع أممي (داعشي) استُكمل في الخرطوم، وبه تم اختبار فكرة تصدير "المجاهدين" العرب إلى حروب أهلية بأجندات دينية، كانت الحرب في الجنوب اليمني بروفة دموية لما سيجري في العراق وسوريا لاحقًا، لكنها مرّت بلا محاسبة، كأن الدم هناك أرخص من أن يُحسب.
في 1998، قصف الأمريكيون مصنع الشفاء في الخرطوم، وسط جدل دولي حول ما إذا كان المصنع ينتج مواد كيميائية لصالح تنظيم القاعدة. كثيرون يومها شككوا في الرواية الأمريكية، لكن انكشاف العلاقة بين السودان وقائد تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن في سنوات التسعينات لم يعد يحتاج إلى تأكيد.
لقد كان أسامة بن لادن يقيم في السودان، ويُسيّر شركاته تحت حماية نظام البشير ورفيقه الترابي، ويُعد العدة لهجماتٍ ستُغيّر وجه العالم.
وحدث ما كان يُخطط له: في 11 سبتمبر/أيلول 2001، انهار برجا التجارة في نيويورك، وبدأت الخرائط الجديدة تُرسم على الدم، وكان السودان أحد المواقع الأولى التي وُضعت تحت مجهر الاستخبارات الدولية، ليس فقط بسبب استضافة بن لادن، بل بسبب الدور التراكمي الذي لعبته الخرطوم في تشكيل العقل الجهادي وتوفير بيئة التمويل والتدريب والحماية.
اليوم، بعد أكثر من عشرين عامًا على تلك اللحظة، تعود الخرطوم لتصدر العناوين، لا عبر بن لادن هذه المرة، بل عبر غاز الكلور المستخدم ضد المدنيين والمقاتلين في حرب داخلية تُدار بعقلية نفس النظام القديم، وإن اختلفت الوجوه. لم يتغير شيء: الإسلاميون ما زالوا في قلب اللعبة، سواء عبر واجهات عسكرية أو مدنية، و"العدالة" ما زالت تُختصر في لجان لا تملك من الاستقلال سوى اسمها.
أن يُكلف البرهان لجنة من وزاراته وأجهزته بالتحقيق في جريمة تقع تحت سلطته، لهو نكتة سوداء في تاريخ بلدٍ أنهكته النخب التي باعت الدين والسياسة معًا. هذه ليست لجنة تحقيق، بل لجنة "تحصين ذات" كما وصفتها صحيفة «نيويورك تايمز»، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. لقد اعتاد السودان على اللجان منذ أيام عمر البشير، كما اعتاد العرب على انتظار نتائج لا تأتي، وعدالة لا تتحقق.
ما نعيشه اليوم هو انكشاف مستمر، كل حلقة جديدة، من السلاح الكيماوي إلى العقوبات الأمريكية إلى انهيار الصحة وظهور الكوليرا، ليست سوى ارتدادات طبيعية لتلك اللحظة الأصلية في عام 1989، عندما تم اختطاف الدولة لصالح مشروع لا يعترف بالحدود ولا بالمدنية ولا بالمواطنة. آنذاك، لم نكن نفهم لماذا يُدعى كل هذا الحشد من الإسلاميين إلى الخرطوم؟ ولماذا يُسلَّح الجهاديون للذهاب إلى عدن بدل كابل؟، ولماذا تُدار الدولة وكأنها ثكنة عقدية لا وطن فيها؟
الآن نفهم:
نفهم أن ما يجري من انتهاكات – بما فيها استخدام الغاز الكيماوي – ليس «خروجًا» عن النظام، بل هو نتاج طبيعي لنظام أُسس على القمع والاستثناء والإنكار.
نفهم أن تعيين شخصية مثل كامل إدريس، بربطة عنق ملونة وخطاب بثلاث لغات، لن يُنقذ العسكر من جرائمهم، ولن يُعيد تلميع واجهة فقدت مصداقيتها، لا المظهر ولا اللغة كافيان لتغطية الدم.
والمطلوب اليوم، ليس لجنة جديدة من جنرالات النظام، بل تحقيق دولي شفاف تحت مظلة الأمم المتحدة، يُشرف عليه خبراء محايدون، وتُعرض نتائجه على المحكمة الجنائية الدولية، لأن ما حدث – وما يحدث – في السودان، لا يقل عن الجرائم التي وقعت في عدن وسوريا أو رواندا أو البوسنة.
الكيماوي ليس حادثًا عابرًا، بل هو توقيع جديد على وثيقة قديمة من الغدر المنهجي، كتبها الإسلام السياسي، ووقّع عليها العسكر، ودفع ثمنها شعبٌ يطالب اليوم بأبسط الحقوق.. ألا يُقتل بالغاز، وألا يُباع باسم الدين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة