عادت مالي لتتصدر مشهد العنف الديني المتصاعد في منطقة الساحل الإفريقي، وذلك بعد الهجوم الدموي الأخير الذي نفّذه مسلّحو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين - المرتبطة بتنظيم القاعدة - على معسكر “ديورا” في منطقة موبتي وسط البلاد.
الهجوم، الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 40 جنديًا من الجيش المالي، أعاد تسليط الضوء على خطورة الجماعات الجهادية المتطرفة التي تواصل التمدد في فضاء هش أمنيًا وجيوسياسيًا.
الجماعة الإرهابية بثّت مقطع فيديو تؤكد فيه مسؤوليتها عن العملية، في مشهد بات مألوفًا يعكس رسوخها في المعادلة القتالية الإقليمية، فضلًا عن امتلاكها لأدوات إعلامية وقدرات ميدانية تُثير قلقًا متزايدًا لدى حكومة مالي وحكومات المنطقة على حدّ سواء.
لكن ما يحدث في مالي ليس استثناءً، بل جزءٌ من مشهد أوسع يتشكّل في منطقة الساحل الإفريقي الممتدة من بحيرة تشاد إلى عمق الصحراء الكبرى. فقد تحوّلت هذه المنطقة إلى ملاذ واسع للتنظيمات الجهادية التي نشأت من رحم الفوضى والفقر والجهل، وتغذت على ضعف الدولة، واستثمرت في النزاعات العرقية والفراغات السياسية لإعادة رسم خرائط السيطرة.
تنظيمات إرهابية مثل بوكو حرام، وتنظيم الدولة في الصحراء الكبرى، وأنصار الدين، تفرض اليوم نماذج حكم موازية في مساحات شاسعة، متحدّية السيادة الوطنية، ومؤسِّسة لواقع ميداني يُعمّق من أزمات الحكم والشرعية.
ولم تعد هذه الظواهر مقتصرة على منطقة الساحل فقط، فثمة مخاوف متزايدة من انتقال موجة التطرف المنظم إلى شرق القارة، وتحديدًا السودان، حيث تمخّضت الحرب المستمرة منذ أبريل 2023 عن بروز جماعات جهادية منظّمة ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين (الكيزان)، وتتحالف مع قوى عسكرية، وتتحرّك داخل المشهد بصفتها جزءًا من المعادلة السياسية والعسكرية.
وتُعد كتيبة البراء بن مالك أخطر هذه الجماعات وأكثرها تنظيمًا، وهي تقاتل إلى جانب الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع. وتشير بيانات رسمية إلى أن عدد مقاتليها تجاوز 21 ألفًا، فيما تُقدّر جهات أمنية أن العدد الحقيقي يقترب من 35 ألف عنصر، من بينهم مقاتلون خاضوا معارك في ليبيا والصومال بجانب التنظيمات الجهادية هناك.
الخطير أن هذه الكتيبة لا تُخفي انتماءها الفكري لتنظيم القاعدة، وتستخدم خطابًا دينيًا متشددًا، وتُجنّد الشباب عبر سرديات “الجهاد” و”نصرة الإسلام”. وهي تعمل داخل فراغ أمني وفكري، وتتحرك تحت مظلة رسمية غير معلنة، ما يمنحها غطاءً سياسيًا وعسكريًا يمكن أن يُكرّس حضورها على المدى البعيد.
القلق لا يرتبط فقط بعدد المقاتلين أو حجم السلاح، بل أيضًا بإمكانية تحوّل هذه الجماعات إلى مراكز سلطة موازية، أو بدائل للدولة في حال انهيار مؤسساتها، وهو احتمال واقعي في ظل الانقسام والتدهور الأمني المتسارع.
وما يزيد المشهد خطورة هو صمت الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين يراقبون تنامي هذه الجماعات دون تدخل حاسم. وإذا استمر هذا الصمت، فقد يتحوّل السودان إلى نقطة انطلاق لموجة جهادية جديدة، تمتد من حواضن الساحل إلى القرن الإفريقي، وتتجاوزهما نحو البحر الأحمر وشمال إفريقيا، بما يهدد المنطقة الإفريقية والعربية برمّتها.
إن تغوّل هذه التنظيمات، والتي تحظى برعاية من داخل الجيش، وتحولها إلى فاعل رئيس في معادلة السلطة، يمثل تهديدًا عابرًا للحدود، وينذر بإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في القارة الإفريقية على أسس أيديولوجية متطرفة. وإن لم تُواجَه بحزم سياسي وعسكري وفكري، فإن وصولها إلى السلطة لن يكون مجرد فرضية، بل مسألة وقت.
حفظ الله السودان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة