تأتي تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بشأن احتمال عودة الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى أفغانستان في سياق يتجاوز البعد الأمني التقليدي، لتكشف عن حالة احتقان جيوبوليتيكي أوسع تعيشها موسكو في محيطها الإقليمي.
فالمخاوف الروسية لا تنبع من مجرد وجود عسكري غربي محتمل، بل ترتبط بهواجس أعمق تتعلق بمحاولات تقويض نفوذها وإعادة تشكيل موازين القوى في آسيا الوسطى، في توقيت يتزامن مع تصعيد مستمر في الملف الأوكراني وغياب شبه تام لأي تفاهمات مع واشنطن.
يتغذى القلق الروسي من أزمة ثقة متفاقمة مع الولايات المتحدة، حيث باتت موسكو تعتبر أي تحرك عسكري أو سياسي غربي في جوارها جزءًا من منافسة مفتوحة تتجاوز حدود أفغانستان، وتمتد إلى أوكرانيا وأوروبا الشرقية وفضاء النفوذ السوفياتي السابق عمومًا.
ومن هذا المنطلق، تحمل تصريحات لافروف طابعًا استباقيًا يهدف إلى تأكيد رفض موسكو لأي إعادة تموضع غربي في آسيا الوسطى، ليس فقط لأسباب أمنية، بل أيضًا لمنع استكمال حلقة الاحتواء الاستراتيجي التي تسعى واشنطن لتكريسها ضد روسيا منذ سنوات.
رسائل سياسية أكثر من تحرك ميداني
وأثارت تصريحات لافروف ومسؤولين روس حول رفض عودة البنى التحتية العسكرية الأمريكية أو الأطلسية إلى أفغانستان أو آسيا الوسطى تساؤلات بشأن مدى جدية هذا القلق، لا سيما في ظل غياب مؤشرات فعلية على تحركات أمريكية من هذا النوع. إذ لم تصدر عن واشنطن أو حلف الناتو أي إشارات تدل على نية العودة العسكرية إلى أفغانستان، في وقت يتركز فيه الاهتمام الدولي على الحرب في أوكرانيا وأزمات الشرق الأوسط، خاصة في غزة ولبنان.
مع ذلك، تنظر موسكو تقليديًا إلى أي وجود غربي في آسيا الوسطى على أنه تهديد لأمنها ولمجالها الحيوي. ومع تصاعد الضغوط الدولية عليها بسبب الحرب في أوكرانيا، تبدو هذه التصريحات ذات طابع استباقي ورسائلي أكثر منها رد فعل على واقع ميداني ملموس.
ويرتبط توقيتها برغبة موسكو في تثبيت خطوط حمراء في محيطها وطمأنة حلفائها في آسيا الوسطى بأنها لا تزال قادرة على فرض توازن الردع الإقليمي رغم انشغالها في أوكرانيا. إن القلق الروسي واقعي في سياقه التاريخي والاستراتيجي، لكنه يُوظَّف حاليًا كرسالة سياسية ضمن صراع النفوذ الدولي، أكثر من كونه ردًا على تهديد عسكري وشيك.
هل تعتبر روسيا الشراكات الاستراتيجية الأمريكية مع دول الخليج تقليصًا لنفوذها؟
وترى موسكو أن تعزيز الشراكات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ودول الخليج يمثل خطوة مركزية تهدف إلى تقليص نفوذها في المنطقة، بالإضافة إلى احتواء النفوذ الصيني. فقد شكّلت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية وقطر والإمارات، حلفاء استراتيجيين لواشنطن خارج إطار حلف الناتو، ولعبت دورًا محوريًا في دعم المصالح الأمريكية.
ومع الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي إلى المنطقة، وما تبعها من إبرام شراكات شاملة في مجالات الأمن والطاقة والتكنولوجيا، أُعيد تشكيل الخريطة السياسية الإقليمية، ما أثار في موسكو انطباعًا بوجود محاولة ممنهجة لاحتواء وتقليص نفوذها في الخليج.
ترى موسكو أن هذه الشراكات تحدّ من مساحة المناورة المتاحة لها، إذ يؤدي تعميق العلاقة بين دول الخليج والولايات المتحدة إلى تقليص فرصها في توسيع تحالفاتها وتعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع هذه الدول، التي تمثل ساحة تنافس إقليمي ودولي أساسية. ويُعتبر الخليج في موسكو منطقة نزاع استراتيجي بين القوى الكبرى، حيث يُنظر إلى أي تعاون أمريكي-خليجي في مجالات الطاقة والدفاع والتقنية كأداة لتعزيز الهيمنة الأمريكية وتقليص نفوذ روسيا.
في المقابل، تسعى دول الخليج إلى تنويع تحالفاتها الدولية للحفاظ على استقلالية قرارها السياسي والاقتصادي، ما يدفعها إلى إقامة علاقات متوازنة مع قوى إقليمية ودولية، بما فيها روسيا والصين. غير أن أية تحركات أمريكية لتوسيع وتعميق هذه الشراكات تُقرأ في موسكو كمحاولة لسحب هذه الدول من دائرة النفوذ الروسي وتعزيز الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
هل تمثل الشراكات الاستراتيجية الأمريكية تهديدًا للنفوذ الروسي والصيني؟
ترى موسكو وبكين أن التوسع الأمريكي في الشراكات الاستراتيجية والبحث عن حلفاء جدد في الخليج وآسيا الوسطى والمحيطين الهندي والهادئ يمثل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تقويض نفوذهما. وتُعد هذه التحالفات محاولة لتعطيل مبادرات استراتيجية كبرى، مثل مشروع "الحزام والطريق" الصيني، وجهود روسيا لتعزيز التكامل الاقتصادي والأمني في أوراسيا.
كما تُعد هذه التحالفات ردًّا على تحولات النظام الدولي نحو تعددية الأقطاب، حيث تسعى واشنطن للحفاظ على مركزيتها وقوتها العالمية، ما تعتبره موسكو وبكين تهديدًا مباشرًا لمصالحهما. وتُوظَّف هذه الشراكات كأدوات ضغط دبلوماسي واقتصادي وحتى عسكري، كما يتضح من العقوبات الأمريكية على روسيا والدعوات لتقليص الاعتماد على التكنولوجيا الروسية.
في المجمل، تعكس المواقف الروسية بشأن أفغانستان والناتو رؤية شاملة لصراع جيوسياسي متصاعد في أوراسيا، حيث ترى روسيا والصين نفسيهما في مواجهة استراتيجية مع الولايات المتحدة وحلفائها، بما يعزز من التوتر ويعيد تشكيل موازين النفوذ الإقليمي والدولي.
الخاتمة
إن موسكو تنظر إلى تحركات واشنطن الاستراتيجية في أوراسيا والخليج ضمن سياق جيوسياسي أوسع، باعتبارها محاور متكاملة في إطار مشروع احتواء متعدد المسارات يستهدف تقويض نفوذها الإقليمي والدولي. وبينما تنعكس هذه الرؤية في تصريحات روسية تحمل طابعًا استباقيًا ورسائل سياسية لتحصين مجالها الحيوي، فإن القلق الروسي لا ينبع فقط من التحركات الراهنة، بل من تراكمات تاريخية وتجارب شكلت ذاكرتها الاستراتيجية. وفي ظل استمرار التنافس الدولي وتصاعد التوترات، يتجه صراع النفوذ بين موسكو وواشنطن نحو مزيد من التعقيد، خاصة مع دخول دول الخليج كلاعب مستقل يسعى لتحقيق توازن مصالحه بين القوى الكبرى.
وعليه، فإن المشهد الجيوسياسي سيبقى مفتوحًا على احتمالات التصعيد والمساومة، مع ترجيح أن تشهد المرحلة المقبلة تحولات في أنماط التحالفات الإقليمية، وإعادة صياغة لمعادلات النفوذ في مناطق التقاطع الحيوي، وهو ما يتطلب من القوى الإقليمية انتهاج استراتيجيات مرنة تحفظ مصالحها وسط بيئة دولية تتجه بثبات نحو نظام دولي آخذ في التشكل على وقع المواجهة بين الأقطاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة