كان من بين الأفكار الرائعة التي طرحها الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، في منتدى دبي الإعلامي، في مراجعته لمستقبل العالم العربي، فكرةٌ أجدها أفضل وصف لموقف الدول العربية من التطبيع مع إسرائيل، وهي أنه يُستخدم كـ«فزاعة» سياسية.
وبما أن حديث التطبيع له علاقة بالقضية الفلسطينية، فمن حق كل الأيديولوجيات الفاشلة أن تتاجر بها؛ فهناك العروبي، وهناك الإسلامي، وحتى الاشتراكي وغيرهم.
والمشترك بينهم هو الفشل، سواء في تحقيق نصر حقيقي ضد إسرائيل، أو في تحقيق إنجازات تنموية منذ الخمسينيات من القرن الماضي، فجميع أصحاب هذه الأفكار السياسية مرّوا على الحكم في الدول العربية، وتركوها دون أن يتركوا أثرًا إيجابيًا.
ومن بقي منهم، أو ممن يتعاطفون مع هذا الفكر، ما زالوا يتبنون نفس النهج السياسي القائم على خلق «أكاذيب» لتغطية فشلهم.
وبما أن التاريخ يشهد أنهم يفتقدون إلى الشجاعة السياسية والجرأة في الاعتراف بالعجز والفشل، فإنهم يستخدمون التطبيع كـ«فزاعة».
أمر مضحك فعلاً، أنه رغم كل الانتكاسات التي ألمّت بالعالم العربي، لدرجة أن الدكتور قرقاش استخدم وصفًا بأن العالم العربي لم يعد واحدًا، بل هناك عالمان عربيان، وفق معايير التنمية، واستشراف المستقبل، وصناعة الأمل للإنسان العربي: عالم تمثله الدول الخليجية، وعالم عربي آخر ما زال يعيش في زمن الأيديولوجيات التي تسببت في تدمير المجتمعات وهجرة العقول العربية بحثًا عن أمل؛ رغم كل ذلك، ما زالوا مستمرين في صناعة الوهم للشعوب العربية.
التطبيع مع إسرائيل قرار سيادي لكل دولة عربية، لا شك في ذلك. وحديث الدكتور قرقاش لم يكن من باب تشجيع الحكومات العربية على اتباع سلوك دولة الإمارات في التطبيع مع إسرائيل؛ فكل دولة تُقدّر قرارها في هذا الشأن كما تراه مناسبًا.
لكن أهمية وصفه بـ«الفزاعة» تكمن في أن الرأي العام العربي منقسم بين اتجاه يؤيد التطبيع، على أساس أن المنطقة العربية لم تعرف هدوءًا واستقرارًا على مدى أكثر من ثمانية عقود، والسبب ـ كما يدعي أصحاب الأيديولوجيات ـ هو التطبيع مع إسرائيل، وكأن هزيمة إسرائيل ستكون بالشعارات السياسية ومنع أي تطور في المجتمعات العربية.
وقسم آخر من هذا الرأي العام العربي يرى دولًا تتعامل مع المتغيرات السياسية بكل واقعية وموضوعية، فتحقق إنجازات تنموية، وتستقطب مواطنين من دول عربية، ولديها القدرة على التأثير في القرارات الإسرائيلية وتغييرها.
فعلى سبيل المثال: دولة الإمارات أدخلت ما نسبته 42% من المساعدات الإنسانية العالمية لأهل غزة، وقطر هي من تدير التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في مقابل من يعايرون الخليجيين أو الإمارات تحديدًا، وقد خلقوا من أوطانهم بيئات طاردة لمواطنيهم، ولم يكن لهم أثر في خدمة الإنسان الفلسطيني أو مساعدته في تبني قضيته بشكل عملي.
إن كلمة الدكتور قرقاش بأكملها كانت صادقة في رسالتها للعالم العربي، وكانت تدعو إلى استلهام الفلسفة الإماراتية في بناء المجتمعات العربية، بغض النظر عن الفروقات المادية. وأهم أدوات تلك الفلسفة: عدم التقوقع في أيديولوجيات عفا عليها الزمن، ولا تصلح لمواكبة ما يحدث من تغيّرات.
فلا يمكن إدارة صراع أو إدارة دولة في الوقت الحالي بأيديولوجية أو بمنطق يصلح لزمن التحرر من الاستعمار خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
المطلوب تغيير أدوات إدارة الصراعات بما يتناسب والزمن الذي نعيش فيه؛ لأن الثبات في الزمن نفسه، رغم كل التغيّرات، أدى إلى تغيير نظم عربية فيما كان يُسمى بـ«الربيع العربي»، وأدى إلى خسارة المزيد من المواطنين العرب، كما يحدث في غزة حاليًا.
إن العالم يتغير بسرعة، في حين أن بعض الحكومات العربية تعالج هذا التغير بالخداع ورفع الشعارات السياسية، ولا ترغب في التعلم من الدروس التنموية الخليجية، وعلى رأسها التجربة الإماراتية التي أبهرت العالم، ليس لسبب محدد، سوى أن المنطق الأيديولوجي الذي يتبنونه مبني على خداع الشعوب، منذ أكذوبة «رمي إسرائيل في البحر».
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة