خلال حضورنا قمة دبي للإعلام في نسختها الثالثة والعشرين، التقينا وحضرنا جلسة وكلمة الإمام الأكبر الدكتور أحمد محمد أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وأحد أبرز علماء الإسلام في العصر الحديث.
بل هو قامةٌ متجذّرة في عمق الإنسانية والفكر، وشاهدٌ حيّ على مرحلة مفصلية في تاريخ التلاقي الإنساني، حين كان أحد موقّعي وثيقة الأخوّة الإنسانية في مدينة التسامح، أبوظبي، عام 2019، إلى جانب الراحل البابا فرنسيس.
حضوره متفرّد.. واضحٌ في نبرته، هادئٌ في أثره. وأسلوبه بسيطٌ وصادق، إذ قال: "سامحوني، أنا صعيدي وصريح". وفي عباراته من العمق ما يُغنيك عن الشرح، لتتعرّف من خلالها على شخصيته، ومن المعنى ما يضيء لك نورًا، لينساب حوارٌ داخليٌّ مع الذات طال انتظاره.
حديثه لا يمرّ على السمع فحسب، بل يستقرّ في الفكر والتكوين، ويستدعي من داخلك حوارًا صادقًا مع إنسانيتك. حديثٌ يُوقظ، يُلهم، لا يُملي ولا يُحاضر. وضع مرآةً أمامنا جميعًا، دون أن يلوّح بأصبع الاتهام… بل بصدق السؤال وأهمية الإجابة.
تحدّث عن قضايا الساعة الإنسانية: من الذكاء الاصطناعي، إلى الحروب، إلى الرُهاب من الإسلام… لا بوصفها ملفات سياسية، بل كاختبارات لضمير العالم وصوته. لم يكن حديثه عن "الآخر"، بل عنّا نحن، عن الإنسان الذي يضيع في سباق الحداثة بلا بوصلة، وتُهمَل مسيرته في التقدّم حين تفقد وجهتها الأخلاقية.
وفي لحظةٍ بالغة الدلالة، استحضر الإمام الطيب اقتباسًا للمفكر والأديب الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد من كتابه تغطية الإسلام. وكان لهذا الاقتباس وقعه العميق، لا بوصفه استدعاءً ثقافيًا أو أكاديميًا فحسب، بل تأكيدًا على أن الجسور التي نحتاجها اليوم لا تُبنى فقط بين الأديان، بل بين الدين والعلم، والمعرفة، والبحث النقدي. كأنه يقول: لا يكفي أن يتجاورا، بل لا بد أن يعملا معًا لخير الإنسانية.
فعندما يقتبس شيخ الأزهر من المفكرين والمؤلفين، فإنما يمدّ جسورًا بين الدين والفكر، وكأنه يقول: لا بد أن يتجاورا جنبًا إلى جنب، ليُعاد رسم خارطة الأخوّة الإنسانية، لا كوثيقةٍ فحسب، بل كحاجةٍ ووعيٍ متجدّد.
في تلك اللحظة، التفتُّ إلى زميلتي وأنا أبتسم، وكأن ومضةً خاطفة امتدّت من القاهرة إلى نيويورك، ومن الشرق إلى الغرب، مرورًا بدبي، بين الاقتباس والموقف، لتخبرنا أن الحقيقة لا تحتاج إلى ضجيج، بل إلى الشجاعة والصدق.
وفي حضرته، بدا وكأننا نعيد اكتشاف المعنى الحقيقي للقيادة الأخلاقية: الصدق دون استعراض، والشجاعة دون صخب، والعِلم حين يلتقي بالتواضع. وهو تواضعٌ لا يُمثّل ضعفًا، بل وعيًا عميقًا بالغاية، كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله".
وقد جسّد الإمام الطيب هذا الرفع… لا رتبةً فقط، بل رفعةً في التأثير، والحضور، وتطابق القول مع الفعل.
لم تكن كلمةً اعتيادية، ولم يكن لقاءً عاديًا، بل مراجعةً ذاتية، أخلاقية وفكرية؛ تذكيرٌ بأن النُّبل، في زمن التحديات، هو أسمى ما يمكن أن يخلّفه الإنسان من أثر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة