ثمة عامل وراء اعتقاد كثيرين بإمكانية اتخاذ الصين موقفًا أكثر قوة مما يحدث في الحرب الإسرائيلية على غزة.
الصين منذ بداية الألفية الجديدة تسعى إلى تكثيف وجودها في منطقة الشرق الأوسط، ودخلت في استثمارات مليارية مع حكومات دول في الإقليم. ولا تسير في ركب أمريكا حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، في مجلس الأمن والمحافل الدولية.
الأهم من ذلك، أن عينها كانت على ملء الفراغ الذي قد يخلفه الانسحاب الأمريكي. كل هذه الرهانات ذهبت أدراج الرياح، ولم يكن الأمر مفاجئاً للمراقبين للسياسة الصينية الخارجية، في رحلتها نحو مزاحمة الولايات المتحدة على زعامة العالم.
في واقع الأمر، الصين ليست روسيا، ولا يعني التقارب الاستراتيجي بين الدولتين تطابق السياسات الخارجية.
الاستدارة الروسية إلى الشرق الأوسط تختلف عن التوجه الصيني نحو المنطقة، رغم وجود مساحة من التقاطعات. موسكو تميل إلى استخدام القوة العسكرية والسياسية لتعزيز نفوذها، بينما تركز الصين على النهج الاقتصادي والاستثماري.
تتدخل روسيا بشكل مباشر في النزاعات الإقليمية لدعم حلفائها، بينما تتجنب بكين التدخل المباشر وتفضل الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف.
روسيا تركز على القضايا الأمنية وموازنة القوى مع الغرب، في حين يركز التنين الآسيوي على التنمية الاقتصادية وضمان أمن الطاقة.
الدب الروسي يشارك في مبادرات إقليمية، بينما تسعى الصين لتعزيز دورها عبر مبادرات دولية مثل مبادرة الحزام والطريق.
تعقيد العلاقات الدولية
تأسيساً على ذلك، يمكن القول إن غياب الصين عن التدخل المباشر في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يعكس حرصها على تبني سياسة متوازنة تحافظ على مصالحها دون الانخراط في نزاعات قد تؤدي إلى تعقيد علاقاتها الدولية والإقليمية.
هذا بدوره يقودنا إلى التعاطي مع طبيعة مستهدفات الصين من المنطقة.
ولدى بكين أولويات استراتيجية أخرى مثل المنافسة مع الولايات المتحدة، تأمين الموارد الطبيعية، وتعزيز مبادرة الحزام والطريق.
هذه القضايا تعتبر أكثر أهمية واستراتيجية للصين من الانخراط في نزاعات الشرق الأوسط، بما في ذلك دعم حماس.
بكين تدرك أيضاً أنه رغم طموحاتها العالمية، لديها نفوذ محدود في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي مقارنةً بالولايات المتحدة أو القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، لذا تفضل دعم الجهود الدولية لتحقيق السلام دون أن تكون طرفًا مباشرًا في النزاع.
رغم التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، تدرك الصين أن دعم حماس بشكل مباشر قد يؤدي إلى توتر إضافي مع واشنطن التي تعد حليفًا رئيسيًا لإسرائيل. لذلك، تسعى لتجنب خطوات قد تؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه مع واشنطن، خاصة في ظل التوترات الموجودة حول قضايا أخرى مثل التجارة والتكنولوجيا وتايوان.
يتوجب علينا الاعتراف أيضاً أن الصراع بين إسرائيل وحماس نزاع معقد ومتشابك مع العديد من العوامل الإقليمية والدولية. بكين تدرك جيداً أن الانخراط في هذا النزاع قد يجلب تداعيات سلبية، بما في ذلك توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها وزيادة التعقيدات السياسية في المنطقة.
تعتبر الصين الشرق الأوسط جزءًا مهمًا من مبادرة "الحزام والطريق"، لذا تتجنب أي تصعيد يمكن أن يؤثر على استقرار المنطقة وأمن الطاقة، خاصة أن الشرق الأوسط يعد مصدرًا رئيسيًا للطاقة للصين.
أضف إلى ذلك، أن بكين تعتبر سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ركيزة أساسية في دبلوماسيتها.
هذه السياسة التي تتبناها منذ عقود تهدف إلى الحفاظ على الاستقرار العالمي وتجنب النزاعات التي يمكن أن تؤثر على مصالحها.
حياد أم دعم غير مباشر؟
ما سبق يقودنا إلى سؤال جوهري: هل مصالح الصين تدفعها للوقوف على الحياد أم تقديم دعم غير مباشر لإسرائيل؟ الدولة الآسيوية تحاول موازنة تصريحاتها بحيث لا تنحاز بشكل واضح لأي من الطرفين.
تدين العنف ضد المدنيين بشكل عام دون إلقاء اللوم المباشر على طرف محدد، ما يعكس رغبتها في الحفاظ على علاقاتها مع كل من إسرائيل والدول العربية.
بالتزامن، تعلن الصين بشكل متكرر عن دعمها لحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في إقامة دولة مستقلة.
وغالبًا ما يأتي هذا التضامن في إطار دعم القرارات الدولية ومبادرات السلام، لكنه لا يصل إلى حد تقديم دعم مادي أو عسكري.
بقي فقط التأكيد على عامل آخر يغفل عنه كثيرون، يتمثل في حجم العلاقات التجارية بين الصين وإسرائيل، إذ تعتبر بكين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، حيث تجاوزت التجارة الثنائية بينهما 15 مليار دولار في السنوات الأخيرة، مع تزايد الصادرات والواردات بين الجانبين.
هذا بالإضافة إلى استفادة الصين من الخبرات الإسرائيلية في مجالات الزراعة المتقدمة وإدارة الموارد المائية. التعاون في هذه المجالات يعزز الأمن الغذائي والتنمية المستدامة في الصين.
بيت القصيد.. حينما تتشابك الملفات، تصبح المصالح هي البوصلة التي تحرك الدول. فالصين تتحسب جيداً في علاقاتها الخارجية، حيث تتبع دبلوماسية القفز فوق الألغام، دون أن تلمس أقدامها الأرض خوفاً من الانفجارات.
واهم من يعتقد أنها يمكن أن تضحي بمصالحها من أجل قضايا أخرى. الفيلسوف الصيني الشهير كونفوشيوس قال: "عندما يظهر لك الغضب فكر في العواقب"، لذا بكين تفكر في العواقب قبل أن تغضب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة