صناعة الرقائق.. أزمة «نيكسبيريا» تكشف عن تحديات خطيرة
لم تعد أزمة شركة «نيكسبيريا» الهولندية مجرد خلاف تقني حول ملكية منشأة لإنتاج الرقائق.
بل إن الأزمة تحولت إلى علامة فارقة في التحولات الجيوسياسية التي تهز صناعة التكنولوجيا العالمية. ووفقا لتحليل نشرته صحيفة "التليغراف" البريطانية، فإن القضية، التي بدأت باستحواذ الحكومة الهولندية على الشركة بدعوى حماية الأمن القومي، سرعان ما كشفت شبكة أعمق من التوترات بين القوى الكبرى، وأبرزها الصراع الأمريكي–الصيني على الصناعات الحساسة وفي مقدمتها صناعة الرقائق.
وتنتج «نيكسبيريا» ما يسمى «الرقائق القديمة» أو Legacy Chips، وهي رقائق منخفضة التكلفة مقارنة بالرقائق المتقدمة المستخدمة في الذكاء الاصطناعي والتقنيات العسكرية. لكن رغم بساطتها، فإن دورها محوري في الاقتصاد العالمي المعتمد على الإلكترونيات، إذ تحتوي السيارة الواحدة على نحو 1700 رقاقة من هذا النوع. ومع توسع الطلب العالمي على السلع، ازداد الضغط على هذا النوع من الرقائق، بعدما هجرت الشركات الكبرى هذه الفئة بحثًا عن هوامش ربح أعلى، كما فعلت شركات عملاقة مثل «إنفيديا».
ونتيجة انخفاض العوائد، انتقلت الشركات المنتجة للرقائق القديمة إلى دول أقل تكلفة في آسيا. وقد استفادت «نيكسبيريا» من هذا التحول عبر نقل عملياتها إلى الصين، حيث يتم التجميع والاختبار قبل توزيع المنتجات عالميًا. وعلى عكس القيود المشددة التي فرضتها الدول الغربية على الرقائق المتقدمة، لم تكن الرقائق القديمة ضمن دائرة الحظر، ما سمح للصين بالاستثمار المكثف في هذه الصناعة وبناء نفوذ واسع في سلاسل التوريد.
جذور الأزمة
لكن جذور الأزمة الحالية تمتد إلى تاريخ الشركة. فقد بدأت «نيكسبيريا» كقسم تابع لشركة «فيليبس» الهولندية في خمسينيات القرن الماضي، ثم تحولت إلى كيان مستقل قبل بيعها عام 2017 لتحالف صيني، ثم انتقال ملكيتها لاحقًا إلى شركة «وينغتك» المدرجة في «القائمة السوداء» بوزارة التجارة الأمريكية. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت الحكومة الهولندية امتلاكها معلومات تفيد بأن الشركة نقلت تكنولوجيا حساسة إلى الصين، ففعّلت قانونًا يعود للحرب الباردة يسمح بمصادرة أصول الشركات بدواعي الأمن القومي، واعتبرت الخطوة «استثنائية للغاية».
وجاء رد بكين سريعًا، إذ اتهمت أمستردام بالخضوع لواشنطن، وعلّقت تصدير بعض الرقائق عالية الأداء التي تنتجها «نيكسبيريا»، ما هدد بتوقف خطوط إنتاج في أوروبا، وخاصة شركات السيارات الألمانية التي تعتمد بشكل كبير على مكونات الشركة. ومع تصاعد التوتر، اضطرت هولندا إلى التراجع مؤقتًا عن قرار المصادرة، فعادت شحنات الرقائق للتدفق، لكن الأزمة لم تُحل بالكامل بل خفتت حدتها فقط.
هشاشة الموقف في أوروبا
ووفقا للتحليل، تكشف هذه الأزمة هشاشة موقع أوروبا في صراع القوى الكبرى؛ فهي بين ضغط أمريكي يسعى لاحتواء الصين، وبين اعتماد صناعي عميق على سلاسل توريد تشكل الصين مركزها. كما سلطت القضية الضوء على بطء آليات القرار داخل الاتحاد الأوروبي مقارنة بالولايات المتحدة أو الصين، ما يجعل التعامل مع الأزمات التكنولوجية الحساسة أكثر تعقيدًا.
أما الأبعاد الأوسع للأزمة، فهي تتصل بتفكك العولمة وإعادة تنظيم سلاسل التوريد العالمية. فمنذ 2022، أطلقت الولايات المتحدة قانون «CHIPS» الذي خصص 10 مليارات دولار لإعادة توطين إنتاج الرقائق القديمة، رغم انخفاض ربحيتها، لتقليل الاعتماد على الصين. ودول أخرى تدرس خطوات مماثلة، في إطار سباق عالمي لإعادة بناء صناعات حساسة داخل الحدود الوطنية.
لكن هذه الجهود تأتي بتكاليف كبيرة؛ فإعادة بناء مصانع لإنتاج رقائق منخفضة الهامش تتطلب دعمًا حكوميًا سخيًا، ما يعني ارتفاعًا محتملًا في أسعار السلع النهائية وزيادة الأعباء الضريبية على المستهلكين. ومع تكرار أزمات مشابهة، يتجه العالم نحو مرحلة يصبح فيها إنتاج الإلكترونيات أكثر تكلفة وأقل استقرارًا.
وتكشف أزمة «نيكسبيريا» إذن نهاية مرحلة من العولمة السلسة التي قدمت منتجات رخيصة لعقود، وبداية حقبة جديدة تتسم بارتفاع تكاليف التصنيع وتزايد التنافس الجيوسياسي، حيث تتحول الرقائق -حتى البسيطة منها- إلى أدوات نفوذ إستراتيجي وجبهات صراع اقتصادي متصاعد.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuNTYg جزيرة ام اند امز