كنا قد كتبنا في مايو/أيار الماضي مقالا بعنوان "الصين والتصنيع وسلاسل الإمداد".
ومن أهم ما جاء فيه أنه ربما يكون واحدا من الدروس المهمة التي خرج بها البعض من تفشي فيروس كورونا هو خطورة وجود الكثير من سلاسل الإمداد والتصنيع في الصين، وبالتالي كان الاستنتاج المترتب في نظر البعض هو ضرورة عودة هذه السلاسل لتنتج في البلد المعتمد على هذه السلاسل. بمعنى آخر هي دعوة للقومية الاقتصادية والاكتفاء الذاتي، إذ تعود الصناعات مرة أخرى للتوطين في الدول المتقدمة.
وأشرنا إلى أنه يمكن فعلا عودة بعض الصناعات، خاصة تلك المرتبطة بالإمدادات الطبية، إذ بينت الأزمة خطورة عدم توافر هذه الإمدادات من ألبسة واقية وكمامات ومعدات وأدوية، التي كانت مطلوبة للتعامل مع الجائحة بسرعة وكفاءة. لهذا قد تعود بعض هذه الصناعات استنادا إلى الأموال العامة التي سيتم توفيرها للحفاظ على مستوى أعلى من الاحتياطي الاستراتيجي المطلوب من هذه المواد وغيرها، أو استخدام الأموال العامة في دعم المصنعين المحليين لهذه المواد، بحيث يعود جزء من تصنيع هذه المواد محليا بدلا من الاعتماد على الصين لاستيرادها.
والواقع أن التحول في التصنيع بعيدا عن الصين لبعض المنتجات هو أمر قائم بالفعل منذ فترة من الوقت بحكم التطور الذي مر به الاقتصاد الصيني، وارتفاع مستويات المعيشة المستندة إلى ارتفاع نسبي للأجور، ما دفع إلى انتقال بعض الصناعات إلى دول أخرى أقل في تكلفة الإنتاج خاصة في محيطها في جنوب شرقي آسيا، خاصة في السلع الصناعية الخفيفة التي تتطلب في إنتاجها عمالة كثيفة.
وقد خلصنا إلى أن انتقال بعض الصناعات خارج الصين بحكم التطور الصناعي والتكنولوجي الصيني وارتفاع تكلفة الإنتاج بها هو أمر يحدث إذاً بشكل مستمر، وقد يزيد هذا الانتقال بعض الشيء بسبب حاجة الدول المتقدمة لتأمين احتياجاتها الاستراتيجية من بعض المواد، خاصة في بعض القطاعات مثل القطاع الطبي، وذلك كدرس من دروس انتشار فيروس كورونا. لكن انتظار انتقال كامل للتصنيع أو لسلاسل الإمداد خارج الصين وفقا لشعارات "القومية الاقتصادية" هو أمر غير متوقع إلى حد بعيد، إذ لا تزال عوامل مثل الإنتاجية وتكلفة الإنتاج واتساع السوق الصيني الذي يضم نحو 1400 مليون مستهلك من عوامل الجذب القوية للتصنيع في الصين.
وجاءت الوقائع التي ذكرتها مؤخرا وكالة "بلومبرج" للأنباء مصداقا لما ذكرناه في المقال المشار إليه، وذلك في كل من الولايات المتحدة واليابان.
توقعات في الولايات المتحدة:
طبقا لمصادر الوكالة فسوف يأمر الرئيس الأمريكي جو بايدن بمراجعة حكومية واسعة النطاق لكل سلاسل الإمداد الحيوية، وذلك في سبيل تخفيض اعتماد الولايات المتحدة على بلدان مثل الصين، لتوفير الإمدادات من المستلزمات الطبية والمعادن الأساسية، وذلك وفقا لتصريحات بعض المطلعين على الأمر.
وتهدف الإدارة الأمريكية إلى حماية سلاسل الإمداد للحكومة والقطاع الخاص، للحيلولة دون أي نقص مستقبلي، وللحد من قدرة أي بلدان أخرى على ممارسة نفوذ على الولايات المتحدة.
وقد تصاعد الاهتمام بالواردات من عدد من المواد الأساسية وسط تفشي وباء كورونا مع كفاح الولايات المتحدة للحصول على ما يكفي من مستلزمات الحماية الشخصية مثل الكمامات وقفازات المستشفيات من المصنعين في خارج البلاد.
وطبقا لبعض المسؤولين تخطط الإدارة الأمريكية للعمل مع الحلفاء للتوصل إلى منهج جماعي للتعامل مع هذا الأمر.
ومن المتوقع أن يتضمن الأمر التنفيذي للرئيس بايدن توجيه عدد من الهيئات إلى وضع تقارير عن القطاعات التي تصنف على أنها حرجة. وسوف يكون لدى هذه الهيئات عام واحد لكتابة تقاريرها النهائية، بينما ستكون بعض التقارير الأولية جاهزة خلال النصف الأول من هذا العام.
وليس من الواضح بعد متى سوف يصدر الرئيس أمره، وليس من الواضح أيضا ما إذا كان الأمر سيتضمن توجيه الهيئات إلى الإقدام على اتخاذ قرارات عملية بمجرد تحديد القطاعات المعنية.
وكانت إدارة الرئيس ترامب قد وعدت بمراجعة شاملة ودقيقة لسلاسل الإمداد بعد تفشي الفيروس في الولايات المتحدة، وذلك بهدف إنهاء اعتماد البلاد على الخصوم. لكن هذه الدراسة لم ترَ النور قط.
قرارات في اليابان:
أشارت "بلومبرج" كذلك إلى أن الحكومة اليابانية سوف تخصص 222.5 مليار ين (2.1 مليار دولار) خلال الأشهر القليلة المقبلة، للمساعدة في تمويل عدد من المشروعات التي إما أنها ستزيد من التصنيع المحلي وإما أن تعمل على توزيع سلاسل الإمداد في آسيا. ولم تذكر اليابان الصين تحديدا كهدف لهذا التوجه، إلا أنها عوضا عن ذلك ذكرت أنها تهدف إلى تقوية شراكتها مع دول منظمة الآسيان، وهي مجموعة بلدان في جنوب شرق آسيا لا تتضمن الصين.
وسوف تأتي الأموال من ميزانية ثالثة إضافية تمت موافقة البرلمان عليها بعد أن تم استنفاد جميع الأموال المخصصة والاحتياطية في ميزانية عام 2020/2021 (تبدأ السنة المالية في اليابان في أول أبريل).
ومنذ أن تمت مباشرة برنامج الدعم في العام الماضي، تم توجيه نحو 23.1 مليار ين إلى 81 مشروعا في خارج البلاد تتصل بمواد طبية أو أجزاء سيارات وغيرها. ولم تتضمن أيا من هذه المشروعات الصين. وبدلا من ذلك فقد تركزت هذه المشروعات في فيتنام، وتايلاند، وبلدان أخرى في المنطقة. وتتضمن هذه المشروعات:
• تصنيع شركة فوجي فيلم لمعدات اختبار كوفيد- 19 في فيتنام.
• تصنيع شركة سوميتومو لصناعة المطاط للقفازات المطاطية في ماليزيا.
• تصنيع شركة باناسونيك لأجزاء السيارات في فيتنام.
وقد تم تخصيص 305 مليارات ين لـ 203 مشروعات في العام الماضي، لمساعدة المصانع على صنع الكمامات والقفازات المطاطية ولبعض الصناعات غير الطبية مثل أشباه الموصلات. وتتضمن هذه المشروعات:
• تصنيع شركة شارب للكمامات.
• تصنيع شركة تيرومو لحقن اللقاح.
• تصنيع شركة ميتسوبيشي لأشباه الموصلات.
التوجه إذاً هو نحو بحث إعادة توطين عدد من سلاسل الإمداد -لا سيما من المواد والمستلزمات الطبية التي كشفت الجائحة عن خطورة الاعتماد على الخارج فيها- إما في البلد المتقدم نفسه وإما في بلدان أخرى توفر مزايا للإنتاج بها مثل رخص تكلفة الأيدي العاملة على سبيل المثال. وهو توجه تبرهن عليه التحركات اليابانية مؤخرا، وربما يكشف عنه قرار أو عدة قرارات من المتوقع اتخاذها من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة