مع بدء كل إدارة أمريكية جديدة لعملها يثور نقاش في الأوساط السياسية والإعلامية العربية.
حول توجهات هذه الإدارة ومواقفها تجاه المنطقة العربية والشرق الأوسط، وعما إذا كانت سوف تتبع سياسات أفضل أو أسوأ عن سابقتها.
الموقف هذه المرة مختلف، فالرئيس بايدن ليس شخصية جديدة على السياسة الأمريكية، فقد كان عضواً في مجلس الشيوخ لمدة 36 سنة، ترأس فيها لجنة العلاقات الخارجية لسنوات طويلة وعمل نائباً للرئيس أوباما لثمانية أعوام، تعرَّف خلالها على قضايا العالم ومشكلاته، وعلى التحديات التي تواجه السياسة الخارجية الأمريكية. لذلك، فإن آراء الرجل معروفة ومُعلنة، واعتبر الكثيرون أن سياساته سوف تكون استمراراً لسياسات أوباما، بل وقلل البعض من شأنه وسمّى فترة رئاسته القادمة "الولاية الثالثة" لأوباما.
وبالفعل، عندما نقارن بين خطابي تنصيب أوباما في 20 يناير 2009، وبايدن في وزارة الخارجية في 5 فبراير الحالي، فإننا نجد عديداً من نقاط الالتقاء والاتفاق، مثل التركيز على دور الدبلوماسية والمفاوضات وبناء التحالفات في إدارة السياسة الخارجية، وأن أمريكا حققت قيادتها للعالم وانتصاراتها الكبرى عندما تفاوضت مع الآخرين وأقامت تحالفات إقليمية ودولية وليس من خلال اتخاذها قرارات انفرادية أو اتِّباعها لسياسة الانكفاء على الداخل، وأن استخدام القوة العسكرية بمفردها لا يحقق أمن أمريكا أو الأمن العالمي، وإنما يحققه انخراط الأطراف الدولية المتنافسة أو المتصارعة في مفاوضات للوصول إلى الحلول والتسويات المناسبة.
ظهر هذا بوضوح في كلمات بايدن عن روسيا والصين وكيفية التعامل معهما. وقد جمعت كلماته من ناحية، بين الحسم وتحديد نقاط الخلاف، ومن ناحية أخرى الحرص على إمكانية العمل المشترك عندما يكون ذلك في مصلحة الولايات المتحدة كما قال حرفياً. فهذه السياسة لا تهدف إلى الإقصاء الكامل لهذه الأطراف أو عزلها أو التوقف عن الحديث معها، ولكن على العكس فإنها تعتمد على مزيج من الوعد والوعيد أو الجزرة والعصا. فحسب بايدن، فإن التنافس أو حتى الصراع مع دولة أخرى لا يمنع من التعاون معها في بعض المجالات التي تخدم الأمن الأمريكي.
كان الخيط الرئيسي في خطاب بايدن هو عودة أمريكا إلى المسرح العالمي، وممارسة قيادتها للعالم من خلال المبادئ والتحالفات. فتحدَّث عن الديمقراطية وحكم القانون، واحترام المساواة بين جميع البشر بغض النظر عن العرق أو الدين أو النوع أو اللون أو أي اعتبار آخر، وعودة أمريكا لتكون ملاذاً للمهاجرين، وأنها في عام 2021 سوف تستقبل 125 ألف لاجئ، أي ثمانية أمثال العدد الذي استقبلته عام 2020 وهو 15 ألفا.
أشار بايدن إلى كثير من الأفكار التي كانت محل تعليق في أجهزة الإعلام، وأعتقد أن مراكز البحوث سوف تخضعه للتحليل وفقاً لمنهج "تحليل الخطاب" المعروف في بحوث اللغة والنقد الأدبي والاجتماع والسياسة والإعلام. وهو المنهج الذي يقوم بدراسة الخطاب باعتباره رسالة يسعى مُرسلها إلى نقل معانٍ وأفكار بعينها إلى المستقبلين لها، وأن اختياره للكلمات ليس مصادفة وإنما انتقى تلك التي تنقل رسالته بأكثر الطرق إقناعاً. يشمل هذا المنهج أيضاً إحصاء وتحليل الكلمات والعبارات التي كررها المتحدث أكثر من مرة لتأكيد المعنى، ومنها في حالة خطاب بايدن تكرار عبارة "عادت الدبلوماسية" وتعبير "إن هذه الحرب يجب أن تنتهي". ووفقاً لمنهج تحليل الخطاب، فإن أحد العناصر الهامة هو "المسكوت عنه"، أي ما تحاشى مُرسل الخطاب الإشارة إليه، والسعي إلى تفسير أسباب هذا التحاشي أو التجاهل.
وعندما نتأمل في خطاب بايدن، فإننا نجد أنه بقدر ما كان واضحاً في بعض الأمور، فإنه لم يشر إلى أخرى رغم أهميتها للأمن الدولي. وعلى سبيل المثال فإن خطابه لم يذكر كلمة "الإرهاب" وسياسة إدارته في مكافحة هذا الخطر الذي ما زال حياً ونشطاً في عدد من الدول الأوروبية والعربية ودول الساحل الأفريقي ومناطق أخرى في العالم.
ومع أنه تحدث عن الانقلاب العسكري في ماينمار، وهدد قادة الجيش الذين قاموا به بعبارات جازمة، وعن الحرب في اليمن وضرورة وضع نهاية لها، فإنه لم يشر إلى إيران والتهديد الذي تُمثِّله لأمن الخليج العربي ودوله. ولم يشر أيضاً إلى إحياء عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي وتأثيرها على الأمن الإقليمي، ولم يشر إلى الأزمات الطاحنة في سوريا وليبيا والعراق. ولم يذكر أفريقيا التي تضم أكثر من خمسين دولة وتُمثِّل ثاني أكبر القارات من حيث المساحة وعدد السكان. وبينما تحدث بوضوح عن قراره بوقف تنفيذ انسحاب القوات الأمريكية من قواعدها في ألمانيا والذي كان الرئيس السابق ترامب قد اتخذه، فإنه لم يشر إلى مصير قرار ترامب بشأن انسحاب القوات من العراق والصومال وأفغانستان.
ربما يكون السبب هو تركيز بايدن على التحديات الكبرى التي تواجه بلاده وهي روسيا والصين وتنشيط التحالف الغربي، وإن كان ذلك لا ينطبق على موضوع الإرهاب. وربما يكون أن إدارته لم تُبلور مواقفها تجاه هذه القضايا بعد، أو ربما أنه لا يريد الكشف عن أوراقه بشكلٍ تفصيلي مبكراً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة