لا يختلف اثنان على أن كلمة الانتخابات لم تكن موجودة في قاموس السياسة العراقية.
ولم يكن العراقيون يعرفون طعمها لردح من الزمن، وكانت صناديق الاقتراع تشاهد فقط على شاشة التلفاز، حتى جاء الزمن الذي بدأ فيه المواطن العراقي ينتخب ويقترع بعد الاحتلال الأمريكي، ولكن السؤال هو: ماذا حققت هذه الانتخابات من مكاسب للعراقيين سوى خيبات الأمل الواحدة تلو الأخرى.
صحيح أن الأنظمة الاستبدادية التي حكمت العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينيات من القرن الماضي حرمته من هذا الحق المشروع، لكن حاله لم تتغير بعد صناديق الاقتراع سوى أنها أضفت نوعا من الشرعية على حكّام لا يقلون عنفاً ودموية عن أسلافهم إذا لم يكونوا أكثر تفوقاً في الشراسة والعنف والدموية.
وبدلاً من أن يعلق العراقيون آمالهم بصناديق الاقتراع، بدأوا ينظرون إليها بريبة وشك، حيث ذهبت بآمالهم الانتخابية في العيش بكرامة أدراج الرياح. وصارت صناديق الاقتراع في نظر الشعبيين مأوى للخيبات واليأس وعدم النزاهة لأنها لم تحقق أياً من طموحاتهم.
كان العراقيون يتصورون الانتخابات كرنفالات فرح لأول مرة منذ سقوط النظام السابق، لكنه سرعان ما تحول إلى كابوس في سلب حرية العراقيين، وسجنهم في مربع الفساد والخطف والاغتيال وانعدام الخدمات حتى ضاقوا ذرعاً بهذه الصناديق التي لم تحمل لهم سوى المزيد من الآلام وخيبات الأمل.
وعادة ما كانت المرارة التي تسكن هذه الانتخابات ممزوجة بالنكات والطرائف والحكايات، من طرافاتها ذات مرة شعار "انتخبوا هتلر"، وكان الشعار ببساطة يعبر عن اسم المرشح المحامي منعم هتلر الجابري، وليس هتلر الذي أشعل نيران الحرب العالمية الثانية!
ولعل ما يثير في هذه الانتخابات وحملاتها الدعائية ترافقها النكات والطرائف أثناء تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ورسائل الهواتف النقالة، سرعان ما تحولت إلى نوع من الكوميديا السوداء بعد أن فقدت طعم النكتة ومذاقها، لأن هذه الصناديق هي مَنْ تقرر مصير الملايين، ومستقبل حياتهم وعيشهم. وفي الوقت نفسه، دخلت الشعارات الدينية بقوة في هذه الانتخابات مثل "مرشح بأمر رسولي"، أو شعار "صاحبة الألف إنجاز"، أو المرشح بأمر من "الوحي الإلهي".... إلخ.
وحرص القادة السياسيون في ألعابهم الانتخابية التي تدر عليهم الملايين، على استخدام شتى أنواع الإغراءات من أجل كسب الأصوات، خاصة عند فقراء العراقيين الذين يشكلون 40% من المجتمع العراقي، بمنحهم وجبات طعام مجانية تحت عنوان "هدية من المرشح الدكتور والأستاذ والشيخ!"، هذه الهدية المسمومة التي لم تكن تشبع أو تسمن من جوع إلا ليوم واحد، حيث سرعان ما ينهضون على الجوع والحرمان ثانية.
بعد أن ملّ العراقيون من رتابة الانتخابات وسماجة نكاتها وطرائفها وشعاراتها، استبشروا خيراً هذا العام بقدوم الإشراف الأممي عليها، وفرض رقابة دولية، ما أثار مخاوف الأحزاب السياسية والكتل المختفية وراء الشعارات الدينية والطائفية، لأن إشراف جهات دولية سيعمل على التقليل من نسبة التزوير والتلاعب بالنتائج مثلما حدث في الدورات السابقة، ما حدا بالعديد من القوى والأحزاب السياسية إلى رفضها، متذرعين بانتهاك السيادة الوطنية، المهدورة أساساً من التدخلات الإيرانية ودعم الأحزاب والمليشيات والكتل الموالية لها بالمال والسلاح. ومن أجل ذلك دعت الحكومة العراقية الحالية المنظمات الدولية والعربية للإشراف والرقابة على الانتخابات المبكرة واستخدام البطاقة البيومترية بدلاً من البطاقة الإلكترونية لتفادي عمليات التزوير وشراء الأصوات بعد أن بدأت جهات سياسية تتهيأ لتزوير الانتخابات البرلمانية المقبلة مع سبق الإصرار والترصد من خلال استحواذها على البطاقات الإلكترونية الخاصة بالناخبين كأداة للسيطرة والهيمنة بقوة السلاح. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تعمل الأحزاب الدينية الكبرى مع تكتلاتها من خلال لجانها الاقتصادية على تمويل حملاتها الانتخابية المقبلة من موارد مؤسسات الدولة والمال العام من دون محاسبة أو رقابة. ولا من أحد بإمكانه الوقوف في وجه هذه الخروقات التي أصبحت جزءاً أساسياً من سلوك هذه القوى وأخلاقياتها.
ومما يُقلق العراقيين من ملامح الدعاية الانتخابية المبكرة وتحديدا عند الأحزاب والتيارات المسلحة أنها اتخذت شكل الاغتيالات واستهداف الناشطين والانتقام من القوى المناهضة للفساد، خاصة من أفراد انتفاضة تشرين لكبح تحركاتها وانتقاداتها وأصواتها المؤثرة في الساحة السياسية. وكذلك السعي إلى منعها من دخول الانتخابات المقبلة بالترغيب والترهيب. وهذه الأحزاب، وكياناتها المسلحة والمدعومة، سوف تلجأ إلى التصفيات الجسدية ومنع الإشراف الدولي لأن عدالة التنافس وشفافية الجدال والنزاهة في التعامل، قد تؤدي إلى فقدانها الانتخابات المقبلة، وهذا يعني فقدان مواردها المالية الهائلة التي تجنيها من الفساد المنتشر في تفاصيل ماكينة الحكومة والدولة برمتها، لذلك تسعى جاهدة إلى السيطرة على مراكز الاقتراع بالقوة والنفوذ واستخدام المال السياسي وكل ما تمتلك من سلاح ودعم أجنبي.
على الرغم من ظهور بوادر إرادة دولية لإحداث تغيير حقيقي في العراق، ومحاولة إعادة ثقة المواطن العراقي بالعملية الانتخابية بعد عقدين من الزمان فإن المواطن العراقي يبقى عديم الثقة بهذه الانتخابات التي تتحكم بها الأحزاب الدينية الكبرى والقوى التي تقف من ورائها.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم:
هل ستكون الانتخابات المبكرة في السادس من يونيو المقبل كما أعلنها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي نقطة الخلاص الكبير من أزمات العراق وأوضاعه المتردية في زمن الفوضى والفساد وانعدام الخدمات وكورونا والهيمنة الإيرانية؟
إنه الأمل الذي يراود ضمائر ملايين العراقيين من أجل حياة كريمة لم يتمتعوا بها منذ عقود طويلة، نتيجة لسطوة القوى والأحزاب والكتل والطائفية والعنصرية والتخفي وراء النزعات الشيعية والسنيّة والكردية.
هل تضمن الحكومة بيئة مناسبة لإجراء الانتخابات المبكرة بلا تزوير أو تلاعب؟
هناك شكوك بقدرة الكاظمي على تحقيق ذلك. ولو أراد الوقوف بوجه تلك القوى، بإمكاناتها الهائلة من المال والسلاح، فإن قواته المسلحة المخترقة أصلاً بالحشد الشعبي وبإيران، لن تقدم على مساندته في مسعاه الذي يتوافق مع تطلعات العراقيين وآمالهم المشروعة.
لكن الخلل الموجود أساساً هو غياب قرار سياسي وطني، بسبب هيمنة المليشيات والطائفية والمحاصصة على قرار الدولة، وحماية مجلس النواب، المفترض أن يكون إلى جانب الشعب، فهو يغازل الفاسدين ويغلف أعمال المليشيات وسلاحها المنفلت بقوانين وتشريعات، ما يجعلها تمضي في مسلسل عمليات الخطف والقتل والسرقة بهوية الدولة وسلاحها.
وهذا ما يكشف عن مدى فشل العملية السياسية التي قامت منذ بداياتها على مبدأ المكونات الذي لم يكن الشعب العراقي يعرفه، هذا المبدأ الذي رهن الدولة إلى قوى خارجية معروفة.
بين آلام العراقيين وآمالهم، يطرح السؤال المنطقي نفسه:
إلى أين ستقود الانتخابات المبكرة قاطرة العراق؟
لا يزال التوتر سائدا بين القيادات السياسية والرئاسات الثلاث أو بين رئيس الوزراء وبعض أعضاء البرلمان. لذلك من الصعب أن نعلق الآمال الكبيرة على هذه الانتخابات المبكرة التي قد تُقصي مصطفى الكاظمي من الحكم وتأتي برئيس وزراء من الكتل السياسية المتزمتة والتابعة لإيران، آنذاك، سيكون العراق في وضع أسوأ مما هو عليه الآن، لذلك يبقى الأمل ضئيلاً في التغيير نحو الأفضل.
بعد أن فرضت كلمة الانتخابات نفسها على القاموس العراقي:
هل ستُضحكُ النكات والطرائف المرافقة لها المواطن العراقي أم تجعله يبكي على ما فات وعلى ما هو آتٍ؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة