الطريقة التي تدار بها حرب المملكة المتحدة على وباء كورونا توحي وكأن البلاد باتت مفككة.
وكل دولة من دولها الأربع تعيش بشكل مستقل عن البقية. لقد منح الوباء كلاً من اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية عزلة كبيرة عن إنجلترا، يستغلها دعاة الانفصال في الدول الثلاث لتمهيد الطريق نحو الطلاق من لندن.
صحيح أن حكومات أدنبرة وبلفاست وكارديف تفردت في قرارات الإغلاق الخاصة بها، واتخذت في بعض الأحيان إجراءات مغايرة ومخالفة للندن، ولكن هل يكفي هذا للقول إنها باتت مهيأة للانفصال عن المملكة الأم؟ وهل الخروج من المملكة المتحدة أفضل من اللامركزية التي تتمتع بها هذه العواصم اليوم؟
لقد ضاعف الوباء، الذي لا ينحسر منذ عام، من تداعيات "بريكست" على دول المملكة المتحدة، وزاد من خطر انقسام الإمبراطورية العظمى التي قدمت للعالم نموذجاً فريداً في الاتحاد بين أربع دول مختلفة تماماً في الهوية التاريخية والسياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية، ولكن الوباء لم ولن يكون سبب الانقسام إن كان ممكنا حدوثه.
من يعتقد أن تخلي أي دولة من الدول الثلاث عن إنجلترا لن تتبعه آثار كارثية على اقتصادها ومجتمعها، هو واهم. ومن يراهن على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بعد الانفصال عن المملكة المتحدة لتعويض خسارتها، هو مفرط في التفاؤل، لأن عضوية التكتل الأوروبي لها أوجه سلبية كما لها إيجابيات ومنافع.
الجميع يقر بأن الروح الانفصالية في المملكة المتحدة نمت بشكل كبير بعد طلاق لندن وبروكسل. دول المملكة الأربع لم تعد على وئام كسابق عهدها، وربما لن تعود كما كانت أبداً. ولكن تجربة "بريكست" عاشها جميع سكان المملكة، وقد عرفوا خطورة مثل هذه القرارات المصيرية وصعوبة تجاوز تداعياتها.
الحقيقة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عزز روح الوحدة ونزعة الانفصال في الوقت ذاته. وكما ازداد عدد الراغبين في الطلاق من لندن، خاصة في اسكتلندا، ارتفعت أيضاً أصوات مَن ينادون بضرورة التعقل والابتعاد عن ردود الفعل الانفعالية في الدعوات إلى تفكيك دولة لها مكانة عالمية متقدمة.
ثمة نزاع حقيقي في دول المملكة المتحدة بين تيارين واضحين اليوم؛ أحدهما يدعو لتعزيز الوحدة الوطنية والتكاتف من أجل الحفاظ على تماسك البلاد والعبور بها لضفة الأمان بعد الجائحة و"بريكست"، والثاني يقول إن الوقت قد حان لإنهاء الزواج غير المستقر بين لندن وعواصم الدول الثلاث بدرجات متباينة.
قد تبدو مهمة الوحدويين أصعب في اسكتلندا مقارنة بويلز وأيرلندا الشمالية، لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية، ولكن ذلك لا ينفي وجود قلق حقيقي لدى دعاة الانفصال في اسكتلندا من الكلفة الباهظة للخروج عن المملكة المتحدة، فالاندماج داخل الاتحاد البريطاني أكثر تكاملاً من الاندماج مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي سيكون الانفصال عن بريطانيا أعلى كلفة وأكثر إيلاماً على جميع المستويات.
لقد مر الاسكتلنديون بتجربة قاسية في استفتاء الانفصال عن بريطانيا عام 2014. لا أحد هناك كان يفضل تكرار الأمر، لولا "بريكست" وما أحدثه من تغيرات في اقتصاد الدولة، وما أثاره من نقمة لدى تيار واسع من الاسكتلنديين، يشعرون بأن الإنجليز أملوا رغبتهم على الجميع في الخروج من الاتحاد الأوروبي.
إذاً هي رغبة في الانتقام لدى بعض الاسكتلنديين، وأحلام سياسية لدى البعض الآخر، بالإضافة إلى نزعة قومية مستمرة لدى فريق ثالث توارث حلم الانفصال عن إنجلترا، وفريق رابع يسعى لمكاسب اقتصادية يتوقعها في العودة إلى الاتحاد الأوروبي بسوقه الكبيرة، وعلاقاته المتشعبة والممتدة في جميع أنحاء العالم.
في أيرلندا الشمالية أيضاً ما يستخدمه الراغبون في السعي نحو الطلاق من لندن، وهو أكثر واقعية مقارنة بما يستدعيه الاسكتلنديون من أسباب للانفصال. فأيرلندا الشمالية معلقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحدودها مفتوحة على الطرفين. لقد طالها نصف خروج زاد من خطر عودة الحرب الأهلية إليها، وجعلها فريسة لأي احتكاك يظهر بين لندن وبروكسل في أي ملفات تجارية.
المناقشات بين البريطانيين والأوروبيين بشأن حركة البضائع والسلع عبر أيرلندا الشمالية لا تزال موضع جدل حتى اليوم رغم دخول "بريكست" حيز التنفيذ مع مطلع العام. وكلما طالت هذه المناقشات، ازداد الوضع سوءاً واتسعت نقمة الأيرلنديين على الإنجليز الذين قسموا الجزيرة أولاً، ثم تخلوا عن الشماليين.
النقمة على الإنجليز بوصفهم "انفصاليين" عن الاتحاد الأوروبي موجودة في ويلز كما هي موجودة في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وهذه النقمة موجهة نحو حزب المحافظين الذي رفع راية "بريكست" منذ 2015. ربما كسب الحزب حرب الخروج في نهاية المطاف، كما سجل قبلها انتصاراً كبيراً في انتخابات 2019، ولكن حضوره اليوم على الساحة السياسية خارج إنجلترا بات على المحك.
ثمة مَن ينادي بقيادة جديدة للحزب تخفف من النقمة عليه، خاصة في الدول الثلاث، وهناك مَن يقول إن استبدال بوريس جونسون بشخص آخر لن يكون كافياً حتى لتفادي خسارة الحزب في أي استحقاقات انتخابية مقبلة، فما بالك بوقف الرغبة الانفصالية المتمددة في أدنبرة وبلفاست وكارديف منذ 2016. في المحصلة لن يستطيع الحزب بمفرده تجنيب المملكة المتحدة خطر الانقسام مهما أحدث من تغيرات في طروحاته وشخوصه، ولا بد من البحث عن مخارج أخرى للأزمة.
ربما يكون الحل الوحيد لتجنب الكارثة هو تعزيز الحكم الذاتي للدول الثلاث ومنح حكوماتها وبرلماناتها صلاحيات أكثر مما بحوزتها اليوم. مثل هذا الحل يحتاج إلى إجماع يجب أن تسعى وراءه كل الأحزاب ويتكاتف فيه الوحدويون من الدول الأربع للمملكة المتحدة، وإلا سيكون المقابل كارثياً ولن يفيد الإنجليز تجاهل هذه الحقيقة، كما تجاهلوا أن الغالبية التي ظفرت بالخروج في استفتاء 2016 لم تمثل المملكة المتحدة بما يكفي لتجنيبها التداعيات الكبيرة والمستمرة لـ"بريكست".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة