في عالم يزداد اضطرابًا، حيث تتشابك الأزمات وتتراجع الثقة في النظام الدولي، جاءت جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى الإمارات والسعودية والأردن (12–16 ديسمبر/كانون الثاني 2025) كرسالة مختلفة في نبرتها ومقاصدها.
لم تتعامل الصين مع الشرق الأوسط بوصفه ساحة صراعات، بل باعتباره شريكًا حقيقيًا في المستقبل.
لم تكن الجولة مجرد محطة بروتوكولية، بل لحظة قراءة عميقة لما تمر به المنطقة وما يحتاجه العالم. وفي مقابلة مطولة أعقبت الزيارة، وضع وانغ يي ملامح رؤية صينية للعلاقة مع العالم العربي في مرحلة دقيقة: مرحلة تسبق إطلاق "الخطة الخمسية الخامسة عشرة" للصين، وتسبق كذلك القمة الصينية–العربية الثانية المرتقبة في 2026.
من أبوظبي إلى الرياض وعمّان، كان واضحًا أن الاهتمام العربي بالخطة الخمسية الصينية يتجاوز الفضول.
فاستقرار الصين ونموها المنتظم يُنظر إليهما اليوم كعنصر توازن نادر في نظام دولي مضطرب.
في الإمارات، عبّر القادة بصراحة عن تقديرهم لنهج التخطيط طويل المدى الذي تتبناه بكين، ذلك النهج الذي يربط التنمية بالاستقرار، والانفتاح بالحذر. ولم يكن غريبًا أن يبرز التوافق بين مبادرة "الحزام والطريق" ورؤية "نحن الإمارات 2031"، فالفلسفة واحدة: بناء المستقبل بهدوء، وبخطوات محسوبة.
الصين، من جهتها، ترى أن المرحلة المقبلة في الخليج لم تعد مرحلة تعاون تقليدي في الطاقة والتجارة فقط، بل شراكات نوعية تشمل الابتكار، والاقتصاد الرقمي، والطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي—وهي مجالات تتقاطع مباشرة مع طموحات دول المنطقة.
لقاء وانغ يي مع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي حمل دلالة خاصة. فالعلاقة الصينية –الخليجية، كما بدا واضحًا، تدخل مرحلة تنسيق أوسع في قضايا الأمن والتنمية والتعددية الدولية.
دعم الصين لاستقلالية القرار الخليجي، وتشجيعها للتكامل الإقليمي، والدفع نحو الإسراع باتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين، كلها رسائل تؤكد أن التعاون لم يعد أحادي البعد.
وفي زمن تتصاعد فيه النزعات الحمائية، فإن إنجاز هذه الاتفاقية سيكون إعلانًا بأن دول الجنوب قادرة على الدفاع عن الانفتاح وبناء مساراتها التنموية بثقة.
في السعودية، لم تُخفِ بكين رؤيتها للمملكة بوصفها قوة استقرار إقليمي وشريكًا استراتيجيًا شاملًا. ويتجلى ذلك في محطتين مفصليتين: الأولى دور الصين الهادئ في دعم المصالحة السعودية – الإيرانية، دون ضجيج أو استعراض؛ والثانية توسيع الشراكة لتشمل الطاقة النظيفة، والتقنيات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، بما ينسجم مع "رؤية السعودية 2030" ويعكس تحول العلاقة من شراكة موارد إلى شراكة مستقبل.
أما في عمّان، فقد أكدت المحادثات أن الصين لا تعتمد مقاربة القوى الكبرى التقليدية في الشرق الأوسط. فهي تسعى إلى شبكة شراكات متوازنة تشمل الدول ذات الثقل السياسي والدور الأخلاقي.
ويحظى الأردن، بموقفه الثابت تجاه القضية الفلسطينية وحكمته في إدارة التوازنات، بتقدير خاص لدى بكين. وقد جددت الصين دعمها لدوره في حماية المقدسات في القدس، ولحل سياسي عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
وكانت فلسطين حاضرة في كل محطة. الصين تؤكد أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد، وأن "حكم الفلسطينيين لأنفسهم" أساس أي مستقبل لغزة. وإعلان المساعدات الصينية للفلسطينيين لم يكن لفتة رمزية، بل تعبيرًا عن رؤية تربط الأمن بالعدالة والتنمية.
ومع اقتراب القمة الصينية–العربية الثانية في 2026، تبدو العلاقات بين الجانبين على أعتاب مرحلة أكثر نضجًا.
جولة وانغ يي لم تكن مجرد زيارة، بل رسالة ثقة في المنطقة وقدرتها على أن تكون جزءًا من الحل لا مجرد ساحة للأزمات.
الصين، كما تقول أفعالها قبل كلماتها، لا تسعى لملء فراغ أو فرض نفوذ، بل لبناء شراكات طويلة الأمد—شراكات هادئة، متوازنة، وربما هذا بالضبط ما يحتاجه الشرق الأوسط اليوم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة