حين دخل نابليون بونابرت مدينة ميلانو عام 1796، كانت المدينة خارجة من حرب، منهكة، يخيّم عليها الخوف من القائد القادم بجيشه. توقّع الناس أن يكون الدخول بداية انتقام أو فرض ضرائب قاسية، كما جرت عادة الجيوش المنتصرة آنذاك.
لكن ما حدث كان مختلفًا.
فور دخوله، أصدر نابليون أوامره بتأمين الغذاء للسكان، وحماية الأسواق، ومنع جنوده من التعرض للمدنيين أو ممتلكاتهم. وحين استغرب قادته هذا السلوك، قال عبارته الشهيرة بمعناها:
«يمكنك أن تسيطر على مدينة بالقوة، لكنك لا تحكمها إلا إذا جعلت أهلها يشعرون بالأمان.»
في لحظات الانكسار الكبرى، لا تُقاس الدول بما تملكه من قوة أو امتدادها الجغرافي الكبير، بل بما تقدّمه حين يخذل العالمُ الضعفاء. وحين تضيق الجغرافيا بالمنكوبين، وتغلق السياسة أبوابها لأنها تجهل خطر من حولها، يبقى النداء الإنساني هو اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة. في تلك اللحظات، كان الاسم الذي يُنادى بلا تردّد: الإمارات.
لم تكن الاستغاثة موجّهة إلى دولة تبحث عن نفوذ فسياستها مشهود لها، ولا إلى قوة تسعى إلى مكاسب، بل إلى نموذج ترسّخ عبر سنوات من العمل الهادئ والاستدامة في الأثر، مفاده أن الإنسان أولاً، وأن الكرامة الإنسانية لا جنسية لها ولا لون. والنداء يأتي من الثقة بقدرة الدول، بداية من الكوارث الطبيعية إلى النزاعات المسلحة، ومن المجاعات إلى الأوبئة.
ما يميّز الاستجابة الإماراتية أنها لا تُبنى على ردّ الفعل الآني فقط، بل على منظومة متكاملة من الجاهزية، والرؤية، والالتزام الأخلاقي. كل التحركات سواء كانت على المستوى الإنساني أو السياسي لا تصل متأخرة، ولا مشروطة، ولا انتقائية، بل تنطلق وفق مبدأ وقيم واضحة حتى مع من يسيء لها، المبدأ يقول حيثما وُجدت معاناة حقيقية، يجب أن يوجد فعل حقيقي. لذلك لم يكن غريباً أن تكون الإمارات في طليعة الدول التي تصل إلى بؤر الأزمات ليكون تأثيرها داعم للشعوب، وأحياناً قبل أن يكتمل وعي العالم ويتنبأ بحجم الكارثة.
وعندما تُستحضر الاستغاثة، لا يمكن فصلها عن الثقة. فالثقة لا تُمنح بالخطاب الرنان والحجج والواهية، بل تُبنى بالفعل المتكرر. والإمارات، عبر تاريخها الإنساني، قدّمت نموذجاً جعلها عنواناً لهذه الثقة. لم تسأل يوماً عن العائد السياسي أو الجغرافي، ولا عن الكُلفة الإعلامية، بل عن عدد الأرواح التي يمكن إنقاذها وإعطائها الأمل، بالحياة، وعدد الجراح التي يمكن تضميدها، وإشراقة، المستقبل الذي يمكن زرعه في أرضٍ أنهكها اليأس. الإمارات، كالشمس المشرقة لا تحتاج من يحاول أن يغطيها بغربال.
الأهم من ذلك، أن هذا الدور لم يكن طارئاً أو ظرفياً، بل امتدادا لنهج راسخ في الوعي الإماراتي، تشكّل منذ البدايات الأولى للدولة، وترسّخ في سياساتها ومؤسساتها، وتحول إلى ثقافة مجتمعية. فحين تتحرك الإمارات، لا تتحرك الحكومة وحدها، بل يتحرك الشعب والمجتمع، في مشهد يعكس وحدة القيم قبل وحدة القرار.
وفي عالم تتزايد فيه النزعات الأنانية والسباق لمن يستطيع هضم اللقمة الأكبر، تبدو التجربة الإماراتية استثناءً أخلاقياً مزعجة لبعض المهمشين. فهي تذكير دائم بأن القوة الحقيقية لا تكمن في فرض النفوذ الجغرافي، بل في كسب القلوب، وأن الحضور الدولي الأصدق هو ذاك الذي يُبنى على الرحمة قبل نزاع المصالح.
لهذا، عندما استغاثوا بالإمارات، لم يكن النداء عبثياً، ولم يكن الاختيار عشوائياً. لقد استغاثوا بالإمارات لأنهم يعرفون أنها لا تكتفي بسماع الصوت، بل تتحرك نحوه، وأنها لا تكتفي برفع الشعارات، بل تترجمها إلى جسور، وقوة وتطور ومستشفيات، وقوافل، وأيادٍ تمسك بالحياة في أقسى لحظاتها.
وهنا، لا يكون السؤال: لماذا استغاثوا بالإمارات؟ بل: كيف نجحت الإمارات في أن تكون دائماً الجواب حين يعجز الآخرون عن الإجابة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة