في عالم تتزاحم فيه المنصات وتتسابق فيه الأصوات، لم يعد معيار الإعلام الراقي هو حجم الانتشار ولا ارتفاع النبرة، بل مقدار المهنية والأمانة في نقل الحقيقة.
فالنقد الإعلامي ليس مشكلة، بل هو ضرورة لفرز الخطأ وكشف الخلل، والصراحة والجرأة ليستا عيباً متى ما استندتا إلى الحياد والعدل والالتزام بقواعد المهنة.
لكن الإشكال يبدأ عندما يظهر نوع جديد من الإعلام، يختبئ خلف شعارات جذابة مثل: "نحن صوت الشعب"، "نفضح المستور"، "الناس تعرف والشارع يقول". هذا هو الإعلام الشعبوي الذي يرتدي عباءة الموضوعية، بينما يمارس أبعد ما يكون عنها. إعلام يدسّ السم في العسل، يختار زاوية واحدة من الحدث، ثم يقدّمها باعتبارها الحقيقة الكاملة، متجاهلاً كل ما يناقض روايته.
الإعلام الشعبوي أخطر من الإعلام الموجَّه الصريح، لأنه ينافق الجمهور ويدّعي الحياد، بينما يبني وعياً زائفاً قائماً على العاطفة لا المعلومة. يختزل القضايا المعقّدة في شعارات صاخبة، ويخلق أعداء وهميين ليُبقي جمهوره في حالة غضب دائم، ويشيطن كل إعلام مهني بوصفه "إعلام النخبة".
ومع مرور الوقت، يفقد هذا الإعلام احترام المتلقي قبل أن يفقد احترام المهنة، لأنه يساهم في صناعة الوهم بدل صناعة الوعي. فالمجتمعات لا تنهض بإعلام الصراخ ولا بإعلام التحريض، بل بإعلام يمتلك ضميراً حياً، يوازن الروايات، ويمتحن المعلومات، ويعيد تشكيل الوعي على أساس الحقيقة لا على أساس الانفعال.
إن الإعلام الراقي ليس ذلك الذي يرفع صوته، ولا ذلك الذي يستدرج الغضب أو يستخف بعقول الناس، بل هو الذي يمارس دوره كمنارة تُضيء، لا كأداة تُضلِّل. وفي زمن تتكاثر فيه حملات التضليل ويختلط فيه الغبار بالضجيج، يبقى الإعلام النزيه هو الحصن الأخير الذي يحمي المجتمع من أكاذيب الشعبويين ودجّالي المنصات.
هذا هو الإعلام الذي نحتاجه..
إعلام الصدق لا إعلام الادعاء، إعلام الحقيقة لا إعلام الشعارات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة