في السياسة، لا تُصنع الأوهام دائمًا من الوقائع بل من الطريقة التي نُفسَّر بها تلك الوقائع.
ومن أكثر هذه الأوهام شيوعًا في الخطاب العام الخلط بين الخلاف والاختلاف، وكأن العلاقات بين الدول لا تحتمل إلا حالتين: انسجامًا كاملًا أو صدامًا مكتملًا.
الخلاف في جوهره، هو تعارض في الغايات، أما الاختلاف فهو تباين في الوسائل. الأول يمسّ البنية العميقة للعلاقة، بينما يعكس الثاني ديناميكيتها وقدرتها على التكيّف. غير أن الخطاب السياسي والإعلامي المعاصر كثيرًا ما يتعامل مع الاختلاف بوصفه خللًا، لا باعتباره شرطًا طبيعيًا لأي شراكة معقّدة.
في العلاقات الدولية، لا تُدار الشراكات بمنطق التطابق بل بمنطق التعدّد المنضبط. فالدول، حتى حين تتشارك الهدف، لا ترى الطريق إليه بالطريقة نفسها، ولا تتحرك بالأدوات ذاتها. هذا التباين ليس علامة ضعف، بل دليل واقعية سياسية، لأن الواقع نفسه متعدّد الزوايا.
تاريخيًا، تُظهر التجربة السياسية أن كثيرًا من التحالفات شهدت تباينات في الأدوات والتكتيكات دون أن تتحول إلى خصومة أو تفكك. ففي محطات مختلفة، اختلف الشركاء حول أساليب التنفيذ وتوقيتاته، بينما ظل الهدف الاستراتيجي مشتركًا. غير أن هذه التباينات كثيراً ما وصفت كدليل انقسام لا لكونها كذلك، بل نتيجة عجز الخطاب العام عن التمييز بين إدارة الاختلاف وانهيار الشراكة.
الإشكال يبدأ حين يتحوّل العنوان إلى حكم، والتوصيف إلى إدانة مبطّنة. عندها لا يعود التحليل سعيًا للفهم، بل يصبح إعادة إنتاج لسردية جاهزة، تُقاس فيها العلاقات بدرجة التوتر الظاهر لا بعمق المصالح المشتركة.
التحالفات التي تُبنى على فكرة "الانسجام المطلق" هي تحالفات هشّة بطبيعتها، لأنها تفترض ما لا يمكن تحققه. أما التحالفات القادرة على استيعاب الاختلاف وإدارته دون تحويله إلى صراع، فهي وحدها القادرة على الاستمرار في عالم سياسي مضطرب.
في نهاية المطاف، لا تكمن الخطورة في وجود الاختلاف داخل العلاقات السياسية، بل في العجز عن قراءته بوصفه جزءا من منطق الشراكة لا نقيضها. فالسياسة لا تُدار بوهم الانسجام المطلق، كما لا تُقاس متانة العلاقات بغياب التباين، بل بقدرة الأطراف على احتوائه دون أن يتحول إلى صراع.
وعليه، فإن السؤال الأعمق الذي ينبغي طرحه ليس عمّا إذا كانت العلاقات تمر بمرحلة خلاف، بل عمّا إذا كان الخطاب العام قد فقد قدرته على التمييز بين المفاهيم. فحين يُفهم الاختلاف على أنه خلاف، لا تُساء قراءة الواقع فحسب بل يُعاد تشكيله ذهنياً على نحو يُنتج أزمات لم تكن موجودة أصلًا.
أحيانًا، لا نكون أمام أزمة علاقة..
بل أمام أزمة فهم سياسة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة