ليست المآسي الكبرى في تاريخ الشعوب وليدة الصدفة، بل ثمرة كذب طويل، وصناعة متقنة للوهم، وتراكم متعمد للإنكار.
والحرب التي تحرق السودان اليوم لم تشتعل فجأة بعود ثقاب مهمل، بل خرجت من رحم مشروع ديني/ سياسي مأزوم، رفض الاعتراف بالهزيمة، وقرّر أن يعيد فرض نفسه على البلاد ولو فوق أنقاضها وعلى جثث شعبها. لكن ما يُبنى على الزيف، لا يصمد طويلاً، إذ يكفي اعترافٌ واحد من قلب الدائرة حتى يسقط القناع كاشفاً قبح الوجوه.
لم يمضِ سوى أيام على حديث قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الذي حاول فيه نفي أي صلة للحركة الإسلامية السودانية (الإخوان) بالجيش أو بإشعال الحرب المدمرة في السودان، حتى خرج القيادي الإخواني أحمد عباس في مقطع فيديو مسرب أربك الحسابات، ونسف روايته من أساسها. لم يكن التصريح مجرد زلة لسان، ولا رأياً عابراً، بل اعترافاً فجًّا، يعري المشهد السياسي والعسكري معاً.
وأحمد عباس هذا ليس عضواً هامشياً يمكن القفز فوق حديثه أو التقليل من شأنه. إنه أحد القيادات البارزة في الحركة الإسلامية، ورئيس حزبها بولاية سنار، وواليها السابق، وواحد من أكثر رموز التيار الإخواني تشدداً. هو ابن التنظيم وناطق بلسان روحه الصلبة، ومن ثم فإن حديثه لا يُقرأ بوصفه اجتهاداً شخصياً، بل باعتباره تعبيراً عن مركز ثقل حقيقي داخل البيت الإخواني (المعروف شعبياً بالكيزان).
قال عباس بوضوح فجّ لا يعرف الحياء السياسي: إن الحركة الإسلامية هي من تدير هذه الحرب، وإن 75% من الذين يقودون المعارك الآن على الأرض ينتمون إليها، وأن قائد الجيش يعلم بذلك، ويعلم أننا سنده الوحيد.
هكذا قدّم اعترافاً عارياً، كمن يفاخر بجرمه. اعتراف لم يكن مفاجئاً في مضمونه لأي أحد، ولكنه كان صادماً في صراحته، ومهيناً في توقيته، إذ جاء مباشرة بعد أن حاول البرهان تسويق الحرب خارجياً بوصفها صراعاً وطنياً تقوده مؤسسة عسكرية مهنية في مواجهة خطر وجودي خارجي!
سياسياً، لا يمكن قراءة هذا التصريح إلا بوصفه صفعة قاسية متعمدة على خد البرهان، ورسالة ضبط إيقاع تنظيمية.
رسالة تقول له بوقاحة لا لبس فيها: لست صاحب القرار، وحدودك مرسومة، والجيش الذي تتحدث باسمه ليس كياناً مستقلًا، بل أداة في يد المشروع الإخواني. وبصيغة أشد حدة: هذه حرب الحركة الإسلامية، والبرهان ليس أكثر من واجهة تنفيذية، ومُسخَّر لخدمتها، مهما حاول أن يرتدي ثوب القائد الوطني!
تكمن خطورة هذا الاعتراف لا في كشف المعلوم، بل في نسف الإنكار الرسمي من جذوره. فمنذ اليوم الأول للحرب، لم يكن خافياً على السودانيين، ولا على الدوائر الإقليمية والدولية، أن الإخوان (الكيزان) يسعون للعودة إلى السلطة عبر فوهة البندقية، مستخدمة الجيش، ومقدّمة السودان وشعبه قرباناً أخيراً لمشروعها الذي لفظه الشعب.
غير أن خروج شخصية بوزن أحمد عباس ليقول ذلك علنًا، وبنبرة المنتصر، يعني أن التنظيم لم يعد يشعر بالحاجة إلى التمويه، ولا يرى سبباً لمجاملة أحد.
هكذا سقط البرهان، لا لأن أحمد عباس فضحه فحسب، بل لأن الاعتراف جاء من داخل البيت الإخواني نفسه. وهكذا لم تعد هذه الحرب حرب وطن، ولا حرب جيش، بل حرب جماعة أيديولوجية ضد المجتمع بأسره.
حرب تُخاض على حساب شعب أعزل، وتُستنزف فيها الدولة، ويُعاد فيها إنتاج الخراب، لأن قادتها الحقيقيين يصرّون على تكرار التاريخ، ولو كان الثمن وطناً كاملاً يُساق إلى الهاوية باسم الوهم القديم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة