تبدو مفاهيم المواطنة والولاء في ظاهرها بديهية، لكنها في الواقع من أكثر القضايا تعقيدًا حين تختلط بالهوية والأيديولوجيا.
ففي إحدى الأمسيات، كنت أجلس في مقهى بمدينة بون الألمانية، حيث كانت شاشة المقهى تنقل مباراة أوروبية لكرة القدم، تجمع ناديًا إسبانيًا بآخر ألماني. خلال النقاش، قال أحد الحاضرين-وهو ألماني من أصول عربية- إنه يميل عاطفيًا إلى تشجيع الفريق الإسباني، لكنه لا يستطيع تجاوز حقيقة أن ألمانيا هي وطنه؛ ففيها وُلد عام 1969، وحصل على جنسيتها، ومنها نال التعليم والعمل والرعاية الصحية، ولذلك فإن ولاءه الأول والأخير لها، مهما اختلفت الأصول أو تعارضت الانتماءات الرمزية والميول العاطفية.
لم تكن تلك الجملة عابرة أو مرتبطة بكرة القدم بقدر ما كانت تعبيرًا عن جوهر الدولة الحديثة عبر المواطنة باعتبارها رابطة قانونية وسياسية، والولاء بوصفه التزامًا أعلى من العاطفة والهوية الثقافية.
ومن قاعدة هذه القصة البسيطة تتكشف المعضلة الكبرى التي تطرحها جماعة الإخوان المسلمين؛ إذ تقف رؤيتهم للعالم عند تناقض حاد مع هذا المفهوم، وتعيد إنتاج ولاءات عابرة للحدود، تتجاوز الدولة الوطنية وتضعف منطق السيادة في عالم لا يعترف إلا بالدولة والقانون والشرعية الدولية.
مما لا شك فيه أن جماعة الإخوان المسلمين ليست في خانة الأطياف السياسية على المستوى الداخلي للدولة فحسب، بل تتجاوز ذلك لتكشف عن أزمة بنيوية في تصور الجماعة للعالم والدولة والشرعية الدولية، حيث يقوم فكر الإخوان على فكرة الأمة والتنظيم العابر للحدود، وفكرة "نحن المسلمون مقابل الآخر غير المسلم"، بل ويصطدم فكرهم ومخططاتهم بصورة مباشرة مع النظام الدولي المعاصر الذي تأسس منذ معاهدة وستفاليا، والذي يقوم على مفاهيم السيادة الوطنية والدولة القومية والولاء والشرعية الدولية.
وتسعى هذه المقالة إلى بيان كيف أن طرح الإخوان لا يتعارض فقط مع الدولة الوطنية والولاء، بل أيضًا مع الواقع العملي للعلاقات الدولية، ويتنافر كذلك مع التجربة الإسلامية والعربية ذاتها التي طوّرت صيغًا وأطرًا من العلاقات بين الدول العربية نفسها وبين الدول الإسلامية.
الأمة مقابل الدولة – تعارض وصدام
ينطلق فكر الإخوان من فرضية أن الأمة الإسلامية وحدة سياسية واحدة، وأن الدولة القطرية كيان مؤقت أو مشوَّه تاريخيًا. غير أن هذا التصور يتجاهل حقيقة مركزية الدولة في عالم العلاقات الدولية، وهي أن الدولة ذات السيادة هي الوحدة الأساسية للنظام الدولي، وأن الشرعية السياسية لا تُكتسب عبر الانتماء العقدي، بل عبر الإقليم المحدد، الشعب، الحكومة، والاعتراف الدولي.
إن إنكار الدولة القطرية، أو التعامل معها كمرحلة عابرة، أو كمطية لتحقيق أهداف ضد الوطن، يضع فكر الإخوان في خانة خطرة من الخيانة للوطن، ويجعل فكرهم متناقضًا مع قواعد الشرعية الدولية، ويجعل مشروعهم غير قابل للاندماج في النظام العالمي القائم.
شعار «الإسلام دين ودولة» وإشكالية الشرعية
الدولة الحديثة تستمد شرعيتها من الدستور والقانون، وهذا القانون يحمل الكثير من الأحكام الدينية وأخرى مدنية تسهل وتنظم سبل مختلف الحياة، بينما يحيل الإخوان الشرعية إلى النص الديني والتأويل الأيديولوجي الخاص بهم، ويقدم البعض من الإخوان المسلمين أفكارًا ضعيفة ومخادعة.
التنظيم العابر للحدود – تهديد مباشر للسيادة
إن وجود تنظيم دولي للإخوان لا يمكن فهمه خارج إطار تقويض السيادة الوطنية، وفقدان الولاء للوطن، بل وخيانة الوطن بنظامه وشعبه وتاريخه وتطلعاته. فهذا التنظيم، بجميع فروعه في الدول المختلفة، يتصف بأنه يتجاوز سلطة الدولة الوطنية، ويخلق شبكة ولاءات غير خاضعة للقانون الدولي، ويُدخل الدول في حالة شك دائم بشأن القرار السياسي والأمن الداخلي.
في علم السياسة، يُعد أي تنظيم سياسي عابر للحدود فاعلًا غير دولي وغير مشروع إذا مارس تأثيرًا سياسيًا يتجاوز الأطر القانونية للدول، وهو ما يضع الإخوان في موقع تصادمي مع مفهوم الدولة ذات السيادة.
الدولة الوطنية مقابل الإسلام السياسي – منطقان متناقضان
ترتكز الدولة الحديثة على مبدأ أساسي: لا ولاء سياسي أعلى من ولاء المواطن للدولة، بينما يقوم فكر الإخوان على أولوية الانتماء الأيديولوجي، وازدواجية الولاء بين التنظيم والدولة، وغموض متعمد بين الدعوي والسياسي.
المفارقة الكبرى – الثقافة الإسلامية والعربية أكثر واقعية من الإخوان
المفارقة اللافتة أن التراث السياسي الإسلامي والعربي المعاصر كان أكثر واقعية من طرح الإخوان، فهناك مقومات اللغة والجغرافيا والتاريخ تجمع الدول العربية في علاقات دولية خاصة لا تقوم على المصالح بقدر الأمن والتطلعات المشتركة في التقدم والتنمية. وهذا الأمر واضح في التفاعلات والأحداث السياسية العربية-العربية في النظام الإقليمي العربي والنظام الدولي، ولا ندعِ بأن السياسات العربية لم تحمل صراعات بينها، لكن تلك الصراعات كانت نتاج أيدولوجيات عابرة للحدود أيضاً كالمد الاشتراكي العربي.
ومن الأمثلة المهمة في التفاعلات العربية والإسلامية منظمة الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، اللتين تقومان على احترام سيادة الدول الأعضاء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والعمل التوافقي.
وهذا الأمر يقدم دليلاً على أن الإشكال ليس في الثقافة الإسلامية أو العربية، بل في التأويل الأيديولوجي الذي يطرحه الإسلام السياسي مع جماعة الإخوان المسلمين.
لماذا يتأثر البعض بفكر الإخوان المسلمين
كشف البعد التاريخي والمتابعة بأن الكثير من الناس ينجذبون إلى فكر الإخوان بسبب بعض حالات وأوضاع الفقر، وحدوث الحروب الإقليمية والدولية والأهلية، وإخفاقات التنمية، وغياب العدالة. ناهيك عن توغل فكرة "نحن المسلمون والآخر غير مسلم"، وهذه الفكرة تحمل نظرية خطرة تجعل منهم ممثلين لله مقابل بقية الشعوب.
مقارنة كاشفة – الإخوان ونموذج ولاية الفقيه
يتقاطع فكر الإخوان، رغم اختلاف السياق المذهبي، مع النموذج الإيراني القائم على ولاية الفقيه، فالنموذج الملالي يقوم على تجاوز مفهوم السيادة الوطنية لصالح رعاية الأمة الشيعية، ومحاربة السنة. وفي الحالتين، يكون الناتج تصادمًا مع النظام الدولي، تخريب وتدمير المواطنة والولاء للدولة القُطرية/القومية، وتوترًا دائمًا مع الدول المجاورة، وصعوبة في بناء علاقات خارجية مستقرة.
نخلص من هذه القراءة والتحليل إلى أن فكر جماعة الإخوان المسلمين ليس فقط متعارضًا مع الدولة الوطنية ومدمرًا للمواطنة والولاء، بل غير منسجم بنيويًا مع عالم العلاقات الدولية المعاصر. فهو يتجاهل منطق السيادة، ويستبدل الشرعية القانونية بشرعية أيديولوجية، ويطرح تصورًا أمميًا لا يجد له مكانًا في نظام دولي يقوم على الدولة والاعتراف والقانون، ويقسم العالم بين طرفين "مسلم وغير مسلم" وليس بين شعوب وأمم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة