لم تمرّ على الجنوب لحظة أشدّ وضوحًا من اللحظة التي كشفت فيها حضرموت عن معدنها الحقيقي، وأجبرت الجميع على الاعتراف بأن المعادلة الجنوبية لا تُفهم دونها، ولا تُقرأ بعيدًا عنها.
وأن القاطرة التي تشقّ طريق الدولة نحو المستقبل ليست في عدن وحدها، ولا في شبوة أو أبين، بل في حضرموت تحديدًا، هذه الجغرافيا التي ورثت من التاريخ عقلًا سياسيًا نادرًا، ومن الأرض وزنًا استراتيجيًا يجعلها رأس القاطرة الجنوبية بلا منازع، وما التطورات الأخيرة في الصحراء والوادي إلا الدليل الأكثر سطوعًا على أن الجنوب، بكل مكوّناته، يتحرك بإيقاع حضرمي، وأن شكل الدولة القادمة لن يُصاغ إلا بميزان يمر عبر سيئون والمكلا قبل أي مكان آخر.
فالتمرد الذي انفجر في الهضبة بعد الشحن الخارجي لم يكن حادثًا قبليًا ولا خلافًا على مصالح محلية، بل كان اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على حماية ذاتها، التمرد بدأ كما تبدأ كل الظواهر الخطرة، تمدد صغير هنا، نقطة تفتيش هناك، تعطيل لقاطرات النفط، ثم محاولة السيطرة على منشأة إنتاج حيوية، وكل ذلك في ظل تردد دولة مركزية مثقلة بالخلافات، وشرعية تعيش انقسامها المزمن، ومجلس قيادة عاجز عن إنتاج قرار حاسم، وفي اللحظة التي شعر فيها التمرد بأن الدولة مترددة، تمدد أكثر، لكن حضرموت ليست فراغًا سياسيًا، ولا أرضًا تقبل فكرة «السلطة الموازية»، ولهذا انكشفت اللعبة سريعًا.
ولأن حضرموت تمتلك إرثًا لا يشبه غيرها، كان طبيعيًا أن يخرج اللواء فرج سالمين البحسني، الذي خبر الجغرافيا وخبر الناس وخبر لحظة الانفجار قبل وقوعها، ليصف ما يحدث بوضوح لا يحتمل التأويل: «تمرد قبلي»، ويؤكد أن التعامل معه يجب أن يكون «ضمن الإطار القانوني»، تلك الجملة، بقدر بساطتها، كانت إعلان عودة الدولة من بوابة حضرموت، فالدولة تبدأ حين يُسمّى التمرد باسمه، وحين يكون القانون هو المرجعية، لا ميزان القوة ولا حسابات القبيلة.
ولأن التاريخ لا يصنع الصدف، فإن الحسم الذي نفذته النخبة الحضرمية فجر 3 ديسمبر/كانون الأول 2025 لم يكن مجرد رد فعل، بل كان إعلانًا جديدًا عن دور حضرموت في صياغة الجنوب القادم، فهذه القوة التي قدّمت النموذج الأكثر انضباطًا في مكافحة الإرهاب عام 2016، عندما أعادت تحرير المكلا من تنظيم القاعدة، هي نفسها التي أنهت التمرد في الهضبة خلال ساعات، ليس لأنها الأقوى عسكريًا فقط، بل لأنها تحمل فكرة الدولة، وفكرة الانضباط، وفكرة أن حضرموت لا تُدار بفوضى ولا تُخضع لمنطق المغالبة.
وما جرى يكشف أن معادلة الجنوب الجديدة تُكتب بالفعل، لا دولة جنوبية مستقرة دون حضرموت في مقدمة الصف، ولا مشروع سياسي قابل للحياة دون أن تكون حضرموت رأس القاطرة التي تحدد الاتجاه، فالمحافظة التي أنتجت عمر سالم باعباد، صاحب أول مشروع دستوري جنوبي في مطلع القرن العشرين، ثم أنتجت قادة الأربطة والمراكز العلمية الفقهية الشافعية التي صنعت العقل السياسي للجنوب قبل قيام الجمهورية، ليست جغرافيا محايدة، بل ذاكرة مؤسسة للفكرة الجنوبية التي تحاول اليوم استعادة نفسها.
ولذلك فإن حضرموت لا تواجه اليوم تمردًا قبليًا فقط، بل تواجه محاولة لإعادة تعريفها خارج هويتها السياسية، فبعض القوى الإخوانية حاولت، خلال السنوات الماضية، إعادة جرّ حضرموت إلى مربعات لا تشبهها، مربعات العصبيات، والسطو المسلح، وتوظيف القبيلة كأداة سياسية، لكن حضرموت التي عرفت القانون قبل أن يعرفه معظم الإقليم، وحافظت على التجارة العابرة للمحيطات حين كانت مناطق أخرى غارقة في البدائية، ليست بيئة مناسبة لمشاريع كهذه، وما حدث فجر الثالث من ديسمبر يؤكد أن حضرموت لا تقبل الاختطاف، لا من جماعة، ولا من قائد، ولا من فصيل سياسي.
الحسم الميداني تجاوز الهواجس الأولية، فالرياض تدرك أن حضرموت ليست ملفًا داخليًا في اليمن، بل عقدة مركزية في أمن الخليج، والطاقة، والممرات البحرية، ومكافحة الإرهاب، وترتيبات الجنوب السياسي، هذه الملفات تجعل من حضرموت حجر الزاوية في الاستقرار الإقليمي، ولذلك، فإن السعودية بدت حاضرة في المشهد من موقع الرعاية، لا من موقع التعطيل، لأن ما وقع لا يمسّ الاتفاق بقدر ما يحقق غايته الكبرى، منع الانفلات ومنع الميليشيا من تحويل نفسها إلى سلطة أمر واقع، وانسجامًا مع سياسة المجلس الانتقالي الجنوبي وقضيته المعروفة للرياض ولغيرها.
لكن الصورة لا تكتمل دون وادي حضرموت، العقدة الأمنية الأقدم في المحافظة، فالقوات الموروثة من 1994، والتي لم تُدمج يومًا في منظومة الدولة الجنوبية، صنعت بيئة رخوة، تحركت عبرها شبكات تهريب السلاح، ومرّت فيها خلايا القاعدة وداعش، وتداخلت فيها مصالح سياسية واستخباراتية متناقضة، ومن هنا فإن تحرك القوات الجنوبية نحو الوادي يبدو امتدادًا طبيعيًا لرغبة حضرموت في أن يكون قرارها العسكري بيد أبنائها، لا بيد قوى وافدة تمارس سلطتها منذ عقود دون شرعية اجتماعية أو سياسية.
ومن يراقب المشهد يدرك أن ما يجري الآن ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل إعادة رسم لملامح الجنوب القادم، فالحركة الوطنية الجنوبية، التي بدأت في سيئون مطلع القرن العشرين الماضي على يد باعباد، وتحوّلت لاحقًا إلى مشروع تحرري بقيادة الرئيس علي سالم البيض، لا يمكن أن تستعيد ذاتها بلا حضرموت، وإذا كان الاستقلال الأول قد أُنجز من عدن بدعم من القاهرة، فإن الاستقلال الثاني يتشكل اليوم بوعي حضرمي، وبإيقاع حضرمي، وبموقف حضرمي يرفض الفوضى ويناصر الدولة.
والحقيقة أن مستقبل الجنوب لن يُكتب من خارج حضرموت، فالمعادلة الجنوبية كلها اليوم تُقرأ على ضوء ما يجري فيها، إن استقرت حضرموت، استقر الجنوب، وإن انهارت حضرموت، انهار مشروع الدولة، وإن تقدّمت حضرموت، تقدّم الجنوب كله خلفها.
ولذلك فإن ما حدث في الوادي الحضرمي ليس مجرد انتصار ميداني، بل لحظة تأسيسية تُعيد الاعتبار لجوهر الفكرة الجنوبية، أن الجنوب لا يقوم على السلاح العابر، بل على العقل المؤسِّس، لا على العصبية، بل على القانون، لا على القوة المفلتة، بل على سلطة الدولة، وحضرموت، باعتبارها رأس القاطرة الجنوبية، هي من يحدد المسار، ويضع الإيقاع، ويعيد تعريف اللحظة.
لقد دخلت حضرموت مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد التمرد، مرحلة يعود فيها القانون إلى موقعه الطبيعي، وتعود فيها الدولة لتفرض هيبتها، وتعود فيها فكرة الجنوب إلى جذورها الأولى، مشروع عقلاني، مؤسسي، تشكّل في سيئون، ولا يزال حتى اليوم يجد فيها مصدر قوته.
وفي اللحظة التي تنتصر فيها حضرموت للدولة، تبدأ فعليًا كتابة فصل الجمهورية الجنوبية الثانية، جمهورية تُبنى بالعقل لا بالعنف، بالقانون لا بالتمرد، وبحضور حضرموت في مقدمة القاطرة، لا في مؤخرة العربة، هذه هي المعادلة الجنوبية، كما تكشفها الجغرافيا اليوم، حضرموت رأس القاطرة.. والجنوب يمشي حيث تمشي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة