لقد وضع تقرير شبكة (CNN) الأخير المجتمع الدولي أمام مرآة الحقيقة التي لا يمكن مواراتها خلف أصابع التغاضي؛ فما يكابده السودان اليوم ليس مجرد صراع إرادات عسكرية أو حرب تقليدية بين جنرالين، بل فصل دموي مروّع، خُطّت مسودته في دهاليز النظام القديم.
إن الأدلة القاطعة التي كشفت عن عمليات التطهير العرقي الممنهج تعيدنا قسراً إلى المربع الأول، حيث تتربص الحركة الإسلامية السودانية (الإخوان)، وعناصرها المتغلغلة في مفاصل الدولة، بوصفها العقل المدبر والمحرك الفعلي لهذه الفظائع.
لا يمكن قراءة مشهد الإبادة العرقية في السودان بمعزل عن شهوة السلطة لدى تنظيم الإخوان، وسعيهم المحموم لاستعادة عرش لفظتهم عنه الجماهير في ثورة ديسمبر المجيدة.
لقد برعت الحركة الإسلامية في زرع خلاياها، الساكنة منها والمستنفرة، داخل أوردة الجيش السوداني، وحوّلت جهاز الأمن والمخابرات إلى إقطاعية حزبية تدين بالولاء للتنظيم قبل الوطن.
إن هذه المليشيات التي تتدثر بزي القوات النظامية هي التي تدير رحى الإبادة اليوم، متخذة من التحريض العرقي معولاً لهدم النسيج الاجتماعي، لضمان استحالة عودة السودان وطناً موحداً مدنياً، وقابلاً للانتقال إلى دولة حديثة.
وفي هذا السياق، جاء التقرير الذي أعدّته منصة (Lighthouse) العالمية للتحقيقات الاستقصائية، خصوصاً في نسخته المنشورة بالصحافة الأوروبية، ليشير بوضوح إلى الحركة الإسلامية، وتابعها جهاز الأمن، بوصفه يدها التنظيمية الغليظة في تخطيط وتنفيذ وارتكاب الجرائم.
ولم يكتفِ التقرير بالتعميم، بل سمّى الأشياء بمسمياتها؛ ذاكراً علي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، واللواء اللبيب، الكادر الإخواني الذي يشغل منصب نائب مدير الجهاز، باعتبارهما جزءاً من البنية القيادية التي تدير هذا المسار، والمتورطة في جريمة التطهير العرقي.
هذا الجهاز لم يعد - ولم يكن - مؤسسة استخباراتية لحماية الدولة، بل تحوّل إلى غرفة عمليات سوداء تدير المليشيات، وتضع قوائم الاستهداف على أساس الهوية العرقية والانتماء السياسي، بما ينفي أي ادعاء بالحياد أو المهنية.
إن توظيف كتائب الظل في تصفية المدنيين لم يكن يوماً انحرافاً فردياً، بل عقيدة قتالية متجذّرة صاغها الإخوان المسلمون منذ عقود، وما يجري اليوم هو الذروة الدموية لتلك العقيدة. ومن ثمّ، فإن تحميل المسؤولية لا يجوز أن يتوقف عند الواجهات العسكرية الظاهرة، بما في ذلك الفريق البرهان، الذي لا يتجاوز دوره كواجهة تنفيذية لإرادة الإسلاميين، المحركين الحقيقيين لهذه الحرب وجرائمها.
إن ما يجري في السودان ليست حرباً عشوائية ولا صراعاً بين جنرالين، بل مشروع تدمير ممنهج تقوده الحركة الإسلامية عبر أذرعها المشبَّكة داخل مفاصل السلطة بالقوة والولاء التنظيمي، وأولها الجيش المختطف قسراً من عقيدته الوطنية، وتنفذه مليشيات تتدثر بزي النظام.
ومن يدير ماكينة الإبادة من خلف الستار، سواء من المنافي أو المخابئ، يتحمّل المسؤولية الكاملة أخلاقياً وقانونياً عن كل قطرة دم سالت على أساس العرق أو الانتماء السياسي.
إن اختزال المشهد في مواجهة بين جيش ومتمردين ليس سوى تضليل يبرّئ الجناة الحقيقيين. والمطلوب اليوم كسر هذه السردية، وتصنيف الحركة الإسلامية ومليشياتها كجماعة إرهابية، وتفكيك شبكاتها داخل المؤسستين العسكرية والأمنية، تمهيداً لإعادة بناء جيش وطني بعقيدة خالصة؛ جيش لكل السودان لا للإخوان.
إن التاريخ لا يرحم من أحرق وطناً طمعاً في سلطة زائلة، ودماء الضحايا ستظل شاهدة على جريمة الإخوان في السودان، حتى يُقتص للعدالة ويستعيد الشعب دولته من خاطفيها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة