نطرح كفرضية أنه ربما إلى جانب هدف تحقيق تطور يضعها موضع الريادة عالميا، ربما تخشى القيادة الصينية أيضا من مصير الاتحاد السوفيتي السابق.
نقلت وكالة رويترز تصريحات دبلوماسي كبير بالحكومة الصينية للوفد التجاري الأمريكي الذي زار بكين في الأسبوع الماضي "أن على الولايات المتحدة احترام حق الصين في التطور والازدهار". وتعكس هذه "المناشدة" ما ندعي أنه جوهر أو عقدة المحادثات التجارية بين البلدين، ألا وهو تطلع الصين لكي تصبح اقتصادا صناعيا متقدما يتخصص في إنتاج وتصدير السلع التي تستند للتكنولوجيا فائقة التطور وفقا لاستراتيجية صنع في الصين 2025.
ونطرح كفرضية أنه ربما إلى جانب هدف تحقيق تطور يضعها موضع الريادة عالميا، ربما تخشى القيادة الصينية أيضا من مصير الاتحاد السوفيتي السابق، بعد فترة الركود التي ألمت به خلال فترة حكم بريجينيف، وما بعدها وعجزه عن تحقيق أي تطور ملموس، مما دفع به للتخلف اقتصاديا وتكنولوجيا بشكل كبير عن الغرب.
وربما من هنا تأتي حساسية بكين المفرطة لأي انخفاض في معدل النمو، وربما الأكثر أهمية الانخفاض في معدل نمو الإنتاجية، ومن هنا أيضا ربما تنبع رغبة وإرادة القيادة الصينية في تحقيق قفزات علمية وتكنولوجية مستمرة، مما يفتح المجال أمام التطور المستمر ونمو الإنتاج والإنتاجية، وهو ما تعكسه استراتيجية صنع في الصين 2025 التي تهدف إلى وضع البلاد في مصاف أكثر الدول الصناعية تقدما، سواء من حيث الميل للتخصص المتزايد في الفروع الصناعية الجديدة عبر تعزيز القدرة الوطنية على الابتكار التكنولوجي المستند إلى إنفاق متزايد من قبل الدولة على مجالات البحث والتطوير.
ربما يكون من المحتمل إذا أن السعي الصيني إلى التطور الاقتصادي المستمر والتحديث التكنولوجي ليس فقط باعتبار أن ذلك هدف اقتصادي مشروع تنشده الاقتصادات كافة، بل ربما يكون ذلك أيضا نتيجة لدراسة التجربة السوفيتية، ومن ثم توفر دافع الخوف من انخفاض معدلات النمو
الصين والمثال السوفيتي
رغم ما يبدو من تشابهات عامة بين نظامي الحكم الصيني والسوفيتي خاصة فيما يتعلق بالحزب الشيوعي على مقاليد الحكم لفترة طويلة ممتدة والشعار المرفوع ببناء اقتصاد ومجتمع اشتراكيين، فإنه ينبغي ألا نتجاهل أن هناك اختلافات هامة ما بين التجربة السوفيتية والتجربة الصينية، خاصة فيما يتعلق بالهيكل الاقتصادي وتطوره عبر الزمن، ويمكن الإشارة إلى بعض أهم هذه الاختلافات على النحو التالي:
كانت دورة توسع الاقتصاد الصيني أكبر بمراحل مما حدث في الاتحاد السوفيتي، حيث بلغ متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ما يزيد على 8.5% على مدار أربعين عاما (1978-2017)، وهو أسرع نمو يحققه أي اقتصاد ربما على مدى التاريخ، لينتقل الاقتصاد الصيني لاحتلال المرتبة الثانية كأكبر اقتصاد في العالم منذ عام 2010، ومن المنتظر إذا ما استمرت اتجاهات النمو العالمي الحالية أن يرتفع إلى مرتبة أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030.
اعتمدت الصين على تصنيع وتصدير السلع، خاصة السلع الاستهلاكية الخفيفة في البداية ثم إنتاج السلع المعمرة والمعدات لاحقا، مما أدى لانتقال البلاد من وضع كانت صادرات السلع الأولية تصل فيه إلى نحو 80% من جملة الصادرات في عام 1980 إلى أن تصل نسبة صادرات السلع المصنعة لأكثر من 90% من جملة الصادرات حاليا، كما تحتل الصين مرتبة أكبر مصدر للسلع في العالم، وهذا مقابل اعتماد الاتحاد السوفيتي، وهو ما استمر مع روسيا حتى الآن، على تصدير السلع الأولية، خاصة النفط والغاز، إلى جانب صادرات السلاح، وهو الفرع الصناعي الذي ظل الأكثر تطورا هناك.
حققت الصين تقدما مستمرا في انتشال نسبة كبيرة من سكانها من الفقر وتحسن مستويات المعيشة لقطاعات كبيرة من السكان، على الرغم من استمرار وجود فجوة كبيرة في الدخل بين سكان الريف وسكان الحضر، وتفاوت مستوى الدخل بشكل عام، ويمكن القول إن التحسن في مستويات المعيشة يعد أكثر انتشارا واستمرارا مما شهدته التجربة السوفيتية التي كان النصيب الأكبر من هذا التحسن قد استقر بشكل ملحوظ في يد نخبة الحزب والدولة والدوائر العليا من البيروقراطية، مع تدهور في مستويات معيشة أغلب المواطنين خاصة خلال النصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات.
كانت الصين منذ تجربة انفتاحها في عام 1978 أكثر اندماجا في الاقتصاد العالمي تجاريا واستثماريا، إلى حد أنها باتت تلعب حاليا دور المدافع الأكبر عن حرية التجارة في وجه سياسة حمائية أمريكية، على العكس من العزلة النسبية التي وسمت الاتحاد السوفيتي واقتصرت أغلب تعاملاته على دول الكتلة الشرقية، وبعض الدول النامية.
ورغم كافة هذه الاختلافات يبقى الاقتصاد الصيني اقتصادا تلعب فيه الدولة دورا كبير نسبيا، كما أن الدولة تتحكم في المرتفعات الحاكمة في الاقتصاد، إلى جانب ذلك فما زالت نخبة الحزب والدولة وبيروقراطية القطاع العام والمؤسسات الكبرى تتحكم في عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي، وفي هذا الإطار من المهم الإشارة إلى أن سعي الصين للتحول إلى اقتصاد صناعي متقدم، يستند إلى التكنولوجيا الفائقة في إنتاج وتصدير السلع بحلول عام 2025 يعتمد بالأساس على خطة وضعتها الدولة كما يعتمد بشكل شبه حصري على الإنفاق العام على قطاعات البحث العلمي والتكنولوجي (300 مليار دولار)، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن التجربة السوفيتية قد اقتصرت الابتكارات التكنولوجية فيها على القطاع العسكري، ولم تنفذ هذه التكنولوجيا بشكل ملموس إلى قطاعات الإنتاج المدنية كما حدث في الولايات المتحدة مثلا، هذا بينما تحاول الصين الجمع ما بين تطوير قدرات خاصة في المجال العسكري/ الأمني استنادا إلى البحث العلمي والتكنولوجي سواء بشكل منفرد أو بالتعاون مع الآخرين، والتركيز هنا ينصرف إلى قطاعات الاتصالات والفضاء والمعدات والآليات العسكرية، خاصة حاملات الطائرات والطائرات والصواريخ والأسلحة بأنواعها كافة، إضافة إلى محاولة تحقيق سبق تكنولوجي في قطاعات مدنية مثل إنتاج الروبوتات، ورقائق الكمبيوتر، والسيارات الكهربائية، والقطارات فائقة السرعة ومعدات الاتصالات وغيرها من المجالات، كما أنه ينبغي ألا نغفل أيضا سعي بكين بقدر الإمكان إلى حيازة أكثر الابتكارات التكنولوجية الغربية تقدما في قطاعات الإنتاج المدني السلعية والخدمية بكافة الطرق، وهو ما يعرضها إلى انتقادات غربية بشكل عام، وأمريكية على نحو خاص في إطار المحادثات التجارية التي تجري بين البلدين حاليا.
ربما يكون من المحتمل إذا أن السعي الصيني إلى التطور الاقتصادي المستمر والتحديث التكنولوجي ليسا فقط باعتبار أن ذلك هدفا اقتصاديا مشروعا تنشده الاقتصادات كافة، بل ربما يكون ذلك أيضا نتيجة لدراسة التجربة السوفيتية، ومن ثم توفر دافع الخوف من انخفاض معدلات النمو والركود والتخلف التكنولوجي، وهي كلها من هواجس السقوط السوفيتي الذي تحاول قيادة "الحزب الشيوعي" الصيني تجنبه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة