على متن الطائرة، التي أقلّته عائدا من جوبا، عاصمة جنوب السودان، استفاض البابا فرنسيس في الحديث عن إشكالية "عولمة اللا مبالاة"، التي وصفها بأنها "ظاهرة صارت منتشرة في العالم أجمع"، وتُسبب الكثير جدا من الخوف والألم والقلق.
يُعرّف علماء النفس "اللا مبالاة" بأنها حالة وجدانية سلوكية، معناها أن يتصرف المرء بلا اهتمام في شؤون حياته أو حتى الأحداث العامة، كالسياسة، وإنْ كان هذا في غير صالحه، مع عدم توفر الإرادة على الفعل وعدم القدرة على الاهتمام بشأن النتائج.
حُكما كانت زيارات فرنسيس للكونغو الديمقراطية، ولجنوب السودان، دافعا للحديث عن أزمة عالمنا المعاصر، حيث تأخذ اللا مبالاة تجاه الآخر وجوها متعددة.
ربما من كثرة الآلام، التي تعرضت لها شعوب أفريقيا، وسطوة الخوف والقلق، اللذين طبَعا مسيرة تلك البقعة المنكوبة من العالم، تبلّدت المشاعر، إلى أن وصلت إلى درجة اللا مبالاة، وهو الأمر الذي يخيف في قادم الأيام، بأكثر مما جرى من قبل.
لعل الشيء الوحيد الذي ينزع اللا مبالاة، ويدفع البشرية في طريق الآخر بمحبة كاملة وبنيّات صادقة لانتشاله من وَحدته ووهدته، هو الإيمان والاعتقاد في الأخوة الإنسانية.
ثلاثة أعوام تمر هذه الأيام منذ أن كرس المجتمع الدولي الرابع من فبراير/شباط، يوما للأخوة الإنسانية، باعتبارها الترياق الشافي المؤكد للخلاص من الكراهية المولدة للحروب، والجسر الذي يتم التلاقي عليه.
تبدو البشرية أمام لحظات مثيرة وخطيرة، سيما في ظل المخاوف من أن يكون الربيع القادم موعدا لمواجهة كونية جراء الحرب الروسية-الأوكرانية، والتصعيد القائم على أشدُّه هناك.
ومن جهة ثانية، تتراكم المعضلات العصرانية، من أزمات اقتصادية، وأيديولوجيات لم نسمع بها من قبل، قادرة على إحداث أضرار بمجتمعاتنا المعاصرة، وربما أحدثها مصطلح "الأصولية البيئية أو الإيكولوجية"، وهذه قصة أخرى قائمة بذاتها.
وعلى الرغم من تزامن اليوم العالمي للأخوة الإنسانية، مع زيارة كينشاسا وجوبا، لم ينسَ البابا فرنسيس تلك المناسبة العزيزة على قلبه، والتي صدّرتها دولة الإمارات للعالم كله، رغبة منها في خلق مجتمع أكثر إنسانوية.
وجّه فرنسيس للعالم كلمة نهار السبت الماضي، يوم الأخوة، أكد فيها أننا مدعوون جميعا لنعزز ثقافة السلام وتشجيع الحوار، والمُضي معا في طريق التضامن والتنمية المستدامة والاشتمال، ضمن رغبة في العيش كإخوة في إطار المساعدة المتبادلة.
لمس فرنسيس خلال جولته الأفريقية الأخيرة، كيف يمكن للأديان أن تكون دعما للإنسان، وكيف أن التفسيرات الخاطئة والملتوية وروح التعصب والتشدد يمكن أن تجعل منها -وحاشا لله- وبالا على الإنسانية برمتها.
من هنا اعتبر فرنسيس أن الأديان ليست لديها القوة السياسية لفرض السلام، لكنها تغير الإنسان من الداخل وتحثه على الانفصال عن الشرور وتوجهه نحو السلام.
تبدو الحقيقة واضحة لا مراء فيها، وهي أن الأديان، وبحسب الحبر الأعظم، كانت وستظل مسؤولة عن مقررات ومقدرات التعايش بين الشعوب، خاصة أن الحوار ينسج السلام وينبذ الميول إلى تمزيق النسيج الاجتماعي ويحرر من استخدام المفاهيم الإيمانية لأغراض سياسية.
ولعل من تدابير القدر أن يأتي الحديث عن الأخوة الإنسانية في القلب من واحدة من أعمق وأخطر الأزمات الإنسانية، التي تمر بها المنطقة، تلك التي تمثلت -ولا تزال- في الزلزال الكارثي، ذاك الذي ضرب تركيا وسوريا، وخلف من ورائه الآلاف من الضحايا، ناهيك بالذين لا يزالون تحت الأنقاض في انتظار تصاريف القدر.
هنا تبدو دولة الإمارات مثالا للأخوة الإنسانية الحقيقية، وليس أدل على ذلك إلا التعليمات التي أصدرها رئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والتي ترجمت في عملية "الفارس الشهم-2".. فقد أخذ الفارس الإماراتي الشهم على عاتقه نصب مسشفى ميداني، وتقديم مساعدات غذائية ودوائية، والإمداد بفرق إنقاذ وبحث، وبقية ما يلزم في مثل تلك الكوارث الطبيعية.
اختيار الأخوة، ليس رطانة لغوية، ولا حديثا إنشائيا فحسب، بل عمل بالمحبة، وتغيير أوضاع وتبديل طباع على الأرض، وهو ديدن دولة الإمارات، الذي أرسى دعائمه طيّب الذكر الشيخ زايد بن سلطان، طيّب الله ثراه.
ثلاثة محاور مثّلت نقاط ارتكاز دولة الإمارات في رؤيتها للأخوة الإنسانية، وكانت حاضرة في روحها، حتى قبل أن تظهر الوثيقة الشهيرة إلى النور: حماية المدنيين في حالات الطوارئ الإنسانية، وبخاصة الأطفال والنساء، ثم العمل بشكل وثيق مع المنظمات المحلية والدولية، وأخيرا تعزيز جهود النظام الإنساني العالمي.
لم تكن قد انقضت على ظهور الوثيقة للنور سوى بضعة أشهر، حتى لفّت جائحة كوفيد-19 العالم، ومعها طار أسطول طائرات دولة الإمارات الإنساني، حاملا مشاعل الأخوة للمحتاجين والمصابين، إلى أن وصل الركب إلى حدود أحراش الأمازون في نهاية العالم.
الفارس الشهم-2، هو مسار إماراتي حددته استراتيجية دولة الإمارات، كما يظهر ذلك جليا في وثيقة المبادئ العشر للخمسين عاما القادمة، وفيه أن "المساعدات الإنسانية الخارجية لدولة الإمارات هي جزء لا يتجزأ من مسيرتها والتزاماتها الأخلاقية تجاه الشعوب الأقل حظا".
لا تربط دولة الإمارات مساعداتها الإنسانية للعالم الخارجي بدين أو عرق أو لون أو ثقافة، كما أن الاختلاف السياسي مع أي دولة لا يبرر عدم إغاثتها في الكوارث والطوارئ والأزمات.
الخلاصة.. الأخوة الإنسانية تطرح وتطرد عالم اللا مبالاة خارجا، وعملية "الفارس الشهم-2"، أفضل تجسيد حي لتلك الأخوة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة