العملية الانتخابية الأمريكية أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو عليه كما لو كانت مجمعا لآراء وتوجهات الناخبين، فالآباء المؤسسون كانوا أكثر حكمة
لعل الانتخابات الرئاسية الأمريكية هي أهم الانتخابات في الكون؛ ليس فقط لأنها تتعلق بالدولة العظمى الأولى في العالم حتى الآن، وإنما لأنها بالغة الإثارة. الانتخابات الأمريكية فى عمومها، وسواء كانت لمجلس النواب، أم مجلس الشيوخ، أم لحكام الولايات، أم بالطبع لرئيس الدولة؛ هي ساحة قاسية للمنافسة الشديدة، والإنفاق الضخم، والتغطية الإعلامية الكبيرة، وحتى قصص أفلام "هوليود" التي لا تقل سخونة عن كل ما سبق.
أصبحت الانتخابات صناعة ضخمة بما فيها من استطلاعات وقياسات مستمرة للرأى العام، وفرق إعداد المرشح من أول ما يرتديه من ملابس وحتى خطاباته ومقابلاته الصحفية، وتجهيزه للمناظرات مع المرشحين الآخرين، سواء كانوا من حزبه أم من الحزب الآخر، إذا ما قدر له أن يفوز بترشيح حزبه.
وكل ذلك يقتضي إنفاقا ضخما وتمويلا مستمرا من فترة سابقة على الانتخابات وحتى المشاركة في الانتخابات التمهيدية الحزبية وحتى انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، ثم الانتخابات الرئاسية.
وفي الحقيقة فإن هذه الأخيرة باتت واحدة من مكونات "الشخصية الأمريكية"، وبالتأكيد جزءا هاما من قوة أمريكا "الناعمة"؛ حيث لا تباريها انتخابات أخرى في دول العالم، حتى تلك التي تجرى في الدول الديمقراطية الغربية الأخرى أيا كان النظام الانتخابى الذى تجرى في ظله برلمانيا أو رئاسيا.
الرئيس الحالي دونالد ترامب مثل نقطة فارقة في تاريخ انتخابات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، فهو أول الرؤساء الذين اعتمدوا تماما على قدراتهم المالية الخاصة، بل إنه كان من اعتمد على نفسه في التواصل المباشر مع الجماهير بلغته الشعبوية التي تصل أحيانا إلى حد الوقاحة.
العملية الانتخابية الأمريكية أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو عليه كما لو كانت مجمعا لآراء وتوجهات الناخبين، فالآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانوا أكثر حكمة في وضع مصير الجمهورية الوليدة في يد الآراء الشعبية المتقلبة، ومن ثم كان ضرورة حمايتها بالوسائل التي تكفل كثيرا من التفكير والتدبير الذي يعتمد على "تعدد المصالح" وكثرتها
ترامب بدأ غير معتمد على الحزب الجمهوري الذي لم يكن متحمسا له، وكان مناصرا لمنافسيه في البداية. باختصار لم يكن الرجل الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة اعتبارا من 20 يناير 2017 رئيسا ممن اعتادت عليهم واشنطن خلال فترة الانتخابات التمهيدية الحزبية، ولا عندما وصل إلى البيت الأبيض.
كان هو أول رئيس في التاريخ المعاصر لا يعرض ضرائبه على المواطنين، استنادا إلى أنها لا تزال تحت المراجعة، وهكذا أصبح ترامب بهذه المواصفات جزءا هاما من المعركة الانتخابية في الحزب الديمقراطي؛ لأنها أصبحت تدور حول من يستطيع أن يهزم ترامب، وهل هو المعتدل الذي يقاوم التطرف في الرئاسة الأمريكية، أم أنه الذي يقدم بديلا فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا للسياسات التي يطبقها الرئيس؟
وقبيل بداية الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي، ولما كان الحزب الجمهوري لن يعقد عمليا انتخابات تمهيدية نظرا لأن ساكن البيت الأبيض الجمهوري سوف يكون مرشح الحزب في انتخابات فترته الثانية، فإن مؤسسة "جالوب" الشهيرة لاستطلاعات الرأي العام قامت باستطلاع كبير لتحسس آراء الشعب الأمريكي، فكانت النتيجة ما يلي:
أولا إن الأمريكيين إيجابيون جدا حول وضع الاقتصاد الأمريكي. يعد مؤشر جالوب هو أفضل مما كان عليه منذ عشرين عاما، فيما يتعلق بشأن مواردهم المالية الشخصية. وثانيا يذكر الأمريكيون أنهم أكثر ارتياحا للطريقة التي تسير بها الأمور في الولايات المتحدة أكثر من أي وقت خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
إضافة إلى ذلك، يقول ٦ من كل ١٠ أمريكيين إنهم أفضل حالا مما كانوا عليه قبل ثلاث سنوات، وهذا أيضا مؤشر إيجابي، وثالثا لا يزال الأمريكيون، ككل، متشككين في فكرة أن المزيد من أعمال الحكومات الكبيرة هو السبيل لمعالجة القضايا الملحة للأمة.
وهناك القليل من الأدلة على دعم الأغلبية القوي للحكومة لتصبح أكبر وأكثر نشاطا في حل مشاكل الأمة، هذا أمر مهم لأن المنافسين الديمقراطيين للرئاسة الحاليين يدافعون عن دور حكومي متزايد بشكل كبير في تلبية الاحتياجات الإنسانية.
وينطبق هذا بشكل خاص على المتسابق الحالي بيرني ساندرز، الذي يدعو إلى زيادة التدخل الحكومي من أجل توفير الرعاية الصحية والتعليم والإسكان والوظائف "للجميع" - وفي نواح كثيرة أخرى تدعو إلى إعادة توزيع الحكومة للسلطة والثروة.
ورابعا فإن سياقات الرأي العام التي تبدو أقل إيجابية بالنسبة لترامب تظهر في سياسات الطاقة والبيئة الخاصة بترامب، حيث تتعارض مع أولويات غالبية الأمريكيين.
فالأمريكيون قلقون بشأن جودة البيئة، وهم حساسون للأضرار البيئية التي تحدثها مصادر الطاقة المختلفة. وخامسا لا يزال الأمريكيون يقولون إن الحكومة والطريقة التي يدير بها الممثلون المنتخبون البلد تشكل أهم المشاكل التي تواجه الأمة اليوم.
تظهر الأدلة المتوفرة أيضا أن الأمريكيين يريدون من ممثليهم المنتخبين أن يتنازلوا من أجل إنجاز الأمور بدلا من الالتزام الصارم بالمبدأ. وسادسا لا يزال الأمريكيون يعارضون بناء جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك ويفضلون اتباع نهج واسع وشامل للهجرة.
"الأمريكيون يفضلون بشكل كبير حماية الحدود، على الرغم من الشكوك حول الحاجة إلى جدران حدودية جديدة. كما يفضل الأمريكيون بشكل كبير مناهج السماح للمهاجرين غير الشرعيين الذين يعيشون بالفعل في الولايات المتحدة بالبقاء هنا".
وسابعا لا يزال الأمريكيون لديهم آراء متباينة حول الأعمال التجارية الكبرى، ويواصلون دعم الضرائب الأعلى على الأغنياء والأثرياء، ويقولون إن الشركات تدفع ضرائب أقل من اللازم.
وثامنا يؤيد الرأي العام الأمريكي، ككل، معظم المقترحات التي من شأنها التحكم في بيع الأسلحة واستخدامها، كما أن غالبية الأمريكيين لا يفضلون جعل الإجهاض غير قانوني تماما، ولدى الأمريكيين تحفظات على سياسة ترامب إزاء الهجرة إلى الولايات المتحدة.
وتاسعا يؤيد ترامب في دعوته لتحسين البنية التحتية للبلاد، وهي في العموم نقطة توافق بين الديمقراطيين والجمهوريين.
ولكن العملية الانتخابية الأمريكية أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو عليه كما لو كانت مجمعا لآراء وتوجهات الناخبين، فالآباء المؤسسون للولايات المتحدة كانوا أكثر حكمة في وضع مصير الجمهورية الوليدة في يد الآراء الشعبية المتقلبة، ومن ثم كان ضرورة حمايتها بالوسائل التي تكفل كثيرا من التفكير والتدبير الذي يعتمد على "تعدد المصالح" وكثرتها؛ حيث يجري الكثير من التفاوض حولها طالما أنها تعبر عن جماعات اجتماعية ممثلة في أحزاب أو نقابات أو حركات سياسية.
مؤسسيا فقد جرى اعتماد فيدرالية الدولة ليس فقط للتعبير عن مناطق جماعات وإنما اعتراف بتعددية المصالح الناتجة عن الجغرافيا السياسية لكل ولاية، والديموغرافيا الخاصة بها.
وربما كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكن فيها فوز الرئيس بمقعد الرئاسة حتى ولو لم يكن حائزا على الأغلبية الشعبية وإنما بفوزه بأغلبية "المجمع الانتخابي" الممثل للولايات. حدث ذلك عندما فاز بالأغلبية الشعبية كل من نائب الرئيس "جور"، ووزيرة الخارجية كلينتون، في انتخابات ٢٠٠٠ و٢٠١٦؛ بينما كان من سكن البيت الأبيض جورج بوش الابن في الحالة الأولى ودونالد ترامب في الحالة الثانية.
هذه الحالة الفيدرالية للدولة، فضلا عن أمور أخرى مثل وجود مجلسين للتشريع (النواب ويمثل الأغلبية الشعبية والشيوخ ويمثل الولايات) فضلا عن الفصل بين السلطات، هي التي تحدد طريقة الانتخابات التمهيدية في كل ولاية على حدة، وحسب رأي الحزبيين فيها، ديمقراطيين أو جمهوريين.
وبالنسبة للحزب الديمقراطي فإن المؤتمر العام للحزب يعقد في صيف عام الانتخابات ويحضره ٣٩٧٩ ممثلا للولايات، حسب عدد سكانها ونسبة المشاركة من الديمقراطيين في الانتخابات السابقة، ويتم توزيع نتائج التصويت حسب النسبة التي يحصل عليها كل مرشح في الولاية خلال الانتخابات التمهيدية بشرط حصول المرشح على ١٥% من الأصوات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة