من منظور السينما في تحليل الواقع المصري المعاش في السبعينيات تتضح أمامنا مجموعة من المؤثرات التي استغلتها التنظيمات الإرهابية
ثمة مدخل مهم لدراسة وفهم شيوع التنظيمات الإرهابية وانتشار الأفكار التكفيرية يتمثل في تحليل الواقع الاجتماعي والبيئات الحياتية التي يعيش فيها أفراد تلك التنظيمات، ظلت السينما المصرية لفترة طويلة وسيلة مهمة يمكن عبرها فهم أثر التغيرات السياسية على المجتمعات، وهذا ما حدث فعلا في فترة السبعينيات.
زاد رتم العوامل المؤثرة في المجتمع بعد حرب 1973 تحديدا، وبعد الانتصار الذي تحقق، خصوصا سياسة الانفتاح الاقتصادي الذي قلب الهرم المجتمعي المصري، وظهور موجة الصنايعية لتحل محل البرجوازية المصرية المستقرة، وهي طبقة الموظفين، وتحل أيضا محل الطبقة الارستقراطية الراسخة كمكون رئيسي في المجتمع المصري.
من منظور السينما في تحليل الواقع المصري المعاش في السبعينيات تتضح أمامنا مجموعة من المؤثرات التي استغلتها التنظيمات الإرهابية في شق الصف المجتمعي، ومن ثم تمرير أفكارها أو ما يمكن تسميته خلخلة المجتمع ثم زرع ما يريدون، انتصار 1973 صحيح كان انتصارا سياسيا عظيما إلا أنه لم يوظف داخليا ليكون انتصارا مجتمعيا عظيما أيضا
المتغير الآخر وهو حالة الهزيمة النفسية التي أعقبت مبادرة السلام الإسرائيلية التي وقعها الرئيس السادات مع الإسرائيليين عام 1977، وما أعقبها من انقسام النخبة المصرية المثقفة إلى فريقين؛ فريق رافض قرر الخروج من مصر وفريق آخر بقي في الداخل حتى لو قبل ذلك على مضض.
هذا الانقسام في النخبة المثقفة أو الواعية المصرية وخروجها من مصر أفسح الطريق أمام الأفكار الضالة؛ حيث لم تجد تلك الأفكار من يواجهها ويقف لها رافضا ومحللا.
الانفتاح الاقتصادي الذي اعتبر واحدا من أخطاء الحقبة الساداتية كان ديناميتيا نسف منظومة القيم الراسخة وحلّت محلها لغة الفهلوة والنصب والاحتيال، وربما من عاش تلك المرحلة يذكر المقولات الساداتية التي تصب فيما معناه "أن من لم يصبح غنيا في عهده لن يصبح غنيا في أي عهد آخر".
ولأن في الهزات المجتمعية يتسرب خفافيش الليل فكرا وحركة كانت تلك الأفكار الهدامة المتطرفة تجد رواجا بين جيل من الشباب اختلط عليه الأمر، بعد أن أصبح غير قادر على مجاراة التحلل المجتمعي بلغتهم وغير فاهم وواعٍ بأفكار تلك التنظيمات الإرهابية، انضم إليهم ليس حبا واقتناعا بقدر ما هو كره لما يحدث في الواقع.
في خضم كل هذه المتغيرات كانت السينما المصرية كشافا حقيقيا لكل ما نتحدث عنه، ووسيلة تحليل راصدة، وهنا سأقف أمام نوعين من الأفلام السينمائية التي يمكن من خلالها تحليل المرحلة: الأفلام التي تم إنتاجها في حقبة السبعينيات، والأفلام التي أنتجت بعد حقبة السبعينيات وتناولت المرحلة بشكل صريح وكاشف.
المرحلة الأولى: وهذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها أنها كانت طفحا حقيقيا ومعبرا عما حدث للواقع، مستثنيا طبعا الأفلام العميقة المهمة التي أنتجت في هذه المرحلة، مثل فيلم الأرض 1970، وفيلم العصفور 1972.
وهنا أشير إلى موجة من الأفلام السينمائية التي وصفت بأنها طفح مجتمعي غريب مثل "بمبة كشر" عام 1974 و"بديعة مصابني" عام 1975 و"بنت بديعة" عام 1972 و"سلطانة الطرب" عام 1979 وجميع هذه الأفلام من إخراج حسن الإمام و"شهيرة" عام 1975 من إخراج عدلي خليل. هذه الأفلام قدمت تحت ذريعة "الجمهور عاوز كدا"، أفلام تغازل الغرائز وتسعى إلى زيادة إيراد الشباك بأساليب رخيصة.
الموجة الثانية من الأفلام التي أنتجت بعد حقبة السبعينيات وكان موضوعها التغيرات المجتمعية في هذه المرحلة، وهنا سأشير إلى فيلمين: الأول هو فيلم "المواطن مصري"، وهو مأخوذ عن رواية "الحرب في بر مصر" للأديب الكبير يوسف القعيد.
هذا الفيلم يكشف عن عيب كبير من العيوب التي شكّلت شقا لصف المجتمع المصري بعد انتصارات أكتوبر، "هناك من حارب وضحى بدمه وهناك من سرق ثمار النصر".
يحكي الفيلم عن العمدة الذي يسعى إلى عدم إرسال ابنه إلى الخدمة العسكرية، فيصل إلى فكرة بأن يتفق مع أحد بسطاء الفلاحين على أن يرسل ابنه نيابة عن ابن العمدة، وذلك مقابل قيراطين من الأرض.
فعلا.. يتم إرسال "مصري" ابن الفلاح البسيط، لكن بعد أن تم تغيير اسمه باسم ابن العمدة، وتتطور الأحداث ويستشهد ابن الفلاح، وحين يأتون للتكريم وإعطاء مبلغ المكافأة يكون كل شيء باسم العمدة وابن العمدة والجثة والبكاء يكون من نصيب الفلاح، وهنا يظهر المعنى "ابن الفلاح البسيط حارب واستشهد والعمدة وابنه أخذا التكريم"، على الرغم من أن الفيلم عرض عام 1991 فإنه تناول واقع السبعينيات المفجع.
الفيلم الثاني هو "كتيبة الإعدام"، الفيلم يكشف بشكل كبير عمن تاجر بدماء المصريين، ومن تواطأ وخان المقاومة، الفيلم يدور حول "سيد الغريب" الرجل الذي جمع حوله أبطال المقاومة أيام حصار السويس عام 1973، فوضعوا خطة للتخلص منه، وتشير مؤامرة قتل "سيد الغريب" إلى الكثير من المعاني والدلالات.
وتدور أحداث الفيلم حول أحد عملاء الاحتلال الإسرائيلي الذي ينجح في قتل سيد الغريب وابنه، ولم ينجُ من هذه المؤامرة سوى "حسن عز الرجال"، الذي يُتهم بقتل سيد الغريب وسرقة رواتب الجنود المصريين، يتم حبسه 14 عاما، وبعد أن يخرج يخوض رحلة الكشف عن المجرم الحقيقي ويتم قتله.
من منظور السينما في تحليل الواقع المصري المعاش في السبعينيات تتضح أمامنا مجموعة من المؤثرات التي استغلتها التنظيمات الإرهابية في شق الصف المجتمعي، ومن ثم تمرير أفكارها أو ما يمكن تسميته خلخلة المجتمع ثم زرع ما يريدون، انتصار 1973 صحيح كان انتصارا سياسيا عظيما إلا أنه لم يوظف داخليا ليكون انتصارا مجتمعيا عظيما أيضا، فمنظومة القيم التي عبرت عنها السينما تراجعت بل تبدلت وحلت محلها جملة من السلوكيات السلبية الهدامة.
سقوط فكرة العدل أمام أعين الناس بعد أن رأوا بأم أعينهم أن الذين حاربوا وضحوا بدمائهم لم ينالوا ما يستحقونه من تقدير وتكريم مادي ومعنوي، وأن الذين جنوا ثمار النصر هم طبقة المنتفعين والفهلوية والفاسدين، هنا قدمت تنظيمات الإسلام السياسي نفسها للمجتمع باعتبارها البديل عن كل هذا الانحلال القيمي والفساد، وللأسف نجحت لفترة ثم بدأت تتساقط وتنفضح نواياها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة