كتب الباحث والمفكر السعودي د. توفيق السيف مقالة بعنوان «مواطنون فقط.. لا ذميون ولا مستأمنون»، إذ لاحظ في أعقاب الهجوم الإرهابي على كنيستين مصريتين، استنكاراً واسعاً بين المسلمين كافة، علماء وعامة وسياسيين، لهذا العمل الإرهابي، فقال: أحمِد الله تعالى أنّا
كتب الباحث والمفكر السعودي د. توفيق السيف مقالة بعنوان «مواطنون فقط.. لا ذميون ولا مستأمنون»، إذ لاحظ في أعقاب الهجوم الإرهابي على كنيستين مصريتين، استنكاراً واسعاً بين المسلمين كافة، علماء وعامة وسياسيين، لهذا العمل الإرهابي، فقال: أحمِد الله تعالى أنّا ما عدنا نسمع أحداً يقبل هذه الجرائم أو يبررها، وهذا تطور طيب..
ولكن ما لفت نظره وسط بيانات الاستنكار، الاستعمال المتكرر لمصطلحات مثل «مستأمنين» و«ذميين» و«أهل كتاب» في وصف المواطنين الأقباط الذين وقعوا ضحية الهجوم الغادر.. ومثل هذه المصطلحات ترد عادة في أحاديث رجال دين، تأكيداً لحرمة العدوان على غير المسلمين، ويرى السيف -وهو محق- أن هذه المصطلحات ليست إطلاقات لغوية محايدة، بل هي «حقائق شرعية» أي مصطلحات خاصة ذات محمولات محددة، وتقال في سياق مفهومي قيمي مستمد من الفهم الفقهي القديم، الذي كان يقسم العالم إلى دارين: «دار إسلام» و«دار حرب»، حيث كانت دولة المسلمين تسود العالم وكانت جيوشها تتوسع في البلدان، فتنمو وتنمو معها علاقات المسلمين بغيرهم، فكان من الطبيعي يومها تنظيم العلاقة بين القوة الكبرى المنتصرة ورجالها الأقوياء، والأفراد والمجتمعات الخاضعة لها، ضمن هذه المفاهيم والمصطلحات، لتأكيد الولاية السياسية ومسؤولية الدولة عن كل رعاياها، كقاعدة عمل موازية لولاية الإيمان التي تربط المسلمين بالدولة، والتي تحولت مع مرور الزمن، إلى مضمون وحيد للرابطة السياسية والاجتماعية.
من غير المناسب أن نظل محكومين باجتهادات فقهية محكومة بزمنها، فآراء الفقهاء ليست مقدسة، فهم أبناء عصرهم، واجتهاداتهم ناسبت قضايا زمنهم
ودون مراعاة للمراحل التاريخية الفاصلة، انتقل هذا الموروث الفقهي التاريخي، وحتى بعد سقوط الخلافة الإسلامية ونشأة الدولة الوطنية الحديثة، إلى معظم من كتبوا في هذه القضية، وتكفي نظرة سريعة على كثير مما كتبه الفقهاء والكتاب الإسلامويون المعاصرون حول الموضوع -طبقاً للدكتور السيف- كي نكتشف المشكلة التي واجهوها، حين أرادوا وضع تصور يتلاءم مع الموروث الديني الفقهي من جهة، ومع المبادئ السياسية والقانونية وحقوق الإنسان من جهة ثانية، ومبادئ العدالة من جهة ثالثة.
وينتهي الدكتور السيف إلى أنه لا مجال لتسوية الإشكال، الدولة الحديثة تنتمي لعالم مفهومي مختلف عن ذلك الذي كان قائماً في عصر الخلافة الإسلامية السالفة، ولا يمكن فهمه وفق المنظور الفقهي القديم، ولا المصطلحات الناتجة عنه، فعلاقة الدولة الحديثة برعاياها اليوم قائمة على مبدأ المواطنة فقط، والذي يعني تساوي جميع المواطنين في حقوقهم وواجباتهم، أياً كانت أديانهم وانتماءاتهم الاجتماعية، لا الذمة ولا الاستئمان.
ما ذهب إليه السيف، يتفق مع ما ذهب إليه الأزهر في «إعلان المواطنة والعيش المشترك» مارس 2017، حيث أكد «التأسيس لشراكة متجددة أو عقد مستأنف بين المواطنين يقوم على التفاهم والاعتراف المتبادل والمواطنة والحرية والشراكة الكاملة»، كما دعا إلى إعادة النظر في هذه المصطلحات التاريخية المحكومة بسياقها الزمني وفق اجتهاد جديد يتلاءم وواقع العصر ومقتضيات الدولة الوطنية.
أخيراً: علينا التحرر من أسر الموروث الفقهي التاريخي لعلاقة المواطنين غير المسلمين بالدولة الوطنية اليوم، فتلك العلاقة التاريخية والأحكام التي انبنت عليها والمصطلحات كافة الناتجة عنها بنتُ عصرها، ولا ينبغي سحبها إلى عصرنا، ومن غير المناسب أن نظل محكومين باجتهادات فقهية محكومة بزمنها، فآراء الفقهاء ليست مقدسة، فهم أبناء عصرهم، واجتهاداتهم ناسبت قضايا زمنهم، ونحن أبناء عصرنا، علينا أن نجتهد بما يناسب واقعنا، وبما لا يخالف الثوابت والمقاصد الشرعية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة