"الكربون" القاتل الصامت.. يحصد ملايين الأرواح سنوياً
حذر تقرير جديد صدر بالأمس عن منظمة الصحة العالمية من تزايد المخاطر الصحية المرتبطة بتغير المناخ، ودعا إلى اتخاذ خطوات جادة للاستجابة لها.
في الوقت الذي يحاول فيه العالم الحد دون ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 مئوية، حذر تقرير جديد صدر بالأمس عن منظمة الصحة العالمية من تزايد المخاطر الصحية المرتبطة بتغير المناخ، ودعى إلى اتخاذ خطوات جادة للاستجابة لها.
وقدم التقرير تحليلاته في ضوء ما توصل إليه التقييم السادس للجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، بأن الوفيات المرتبطة بتغير المناخ قد تصل إلى أكثر من 9 ملايين وفاة سنوياً بحلول نهاية القرن، في حالة زيادة الانبعاثات الكربونية بشكل كبير.
التقرير الذي صدر بالأمس بعنوان "إحصائيات الصحة في 2023"، خصصّ لأول مرة قسما كاملاً عن المخاطر الصحية لتغير المناخ، بعدما وصفته المنظمة من قبل في تقارير سابقة بأنه "أكبر تهديد صحي يواجه البشرية"، إذ يؤثر تغير المناخ على 5 عناصر أساسية متعلقة بالصحة، وهي الهواء النظيف، ومياه الشرب الآمنة، والغذاء الكافي، والمأوى الآمن، والسلامة من المرض، ويتسبب في الوفاة والإصابات نتيجة الظواهر الجوية المتطرفة مثل موجات الحر والعواصف والفيضانات، وتعطيل النظم الغذائية، وزيادة الأمراض الحيوانية المنشأ والأمراض المنقولة بالأغذية والمياه والحشرات، وأيضاً مشكلات الصحة النفسية.
وحددت منظمة الصحة العالمية ثلاثة أهداف للاستجابة الصحية لهذه الأزمة، الأول هو "تعزيز الإجراءات التي تقلل من الانبعاثات الكربونية وتعزز الصحة في نفس الوقت"، مثل دعم الانتقال إلى الطاقة المتجددة الذي ينتج عنه تحسين لجودة الهواء وتقليل التلوث الذي يرتبط بملايين الوفيات المبكرة سنويا، والتخطيط المستدام للمدن، بحيث يكون هناك وصول أسهل للمشي وركوب الدراجات ووسائل النقل العام، والتخلص التدريجي من احتراق الفحم وإصلاح دعم الوقود الأحفوري.
وكان الهدف الثاني هو "بناء نظم صحية مستدامة وقادرة على الصمود في وجه تغير المناخ"، ويتم تحقيقه من خلال إنشاء نظم صحية قادرة على الاستجابة للمخاطر الصحية، وفي الوقت نفسه تقليل بصمتها الكربونية، إذ يتسبب قطاع الصحة عالمياً في إنتاج ما يقرب من 4 إلى 5% انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وقال التقرير إن استدامة النظم الصحية يمكن أن تحدث من خلال الاستهلاك الواعي والمستدام للموارد، واستخدام مصادر طاقة متجددة أو أكثر كفاءة، وتقليل مخاطر النفايات، وما يرتبط بها من تلوث، ومحاولة خفض التكاليف.
أمّا الهدف الثالث فكان "حماية الصحة من آثار تغير المناخ"، وذلك من خلال تقييم البلدان لنقاط الضعف الصحية ومعالجتها، والاستثمار في نظم الإنذار المبكر، ووضع سياسات صحية واعية بتغير المناخ.
وحدد التقرير مجموعة من المعوقات التي تمنع تنفيذ خطط المتعلقة بالصحة وتغير المناخ، أبرزها نقص التمويل المالي الكافي، ونقص الموارد البشرية والعمالة الصحية المدربة، والقيود المتعلقة بمواجهة جائحة كوفيد-19، وعدم وجود استراتيجيات شاملة.
الرئيس التنفيذي للتحالف العالمي للصحّة وتغير المناخ
وتصف الدكتورة جيني ميلر، الرئيسة التنفيذية للتحالف العالمي للصحّة وتغير المناخ، نتائج تقرير منظمة الصحة العالمية الأخير حول مخاطر تغير المناخ، والتوقعات بوصول وفيات تغير المناخ سنوياً إلى 9 ملايين شخص بأنه "أمر صاعق".
وتابعت -في تصريحات لـ"العين الإخبارية"-: "دعونا نفكر جيداً في هذا الرقم، هناك ملايين الأشخاص الذين لن يستطيعوا النجاة من حرائق الغابات، أو الذين يصابون بالكوليرا عقب الفيضانات، أو يموتون جراء ارتفاع درجات الحرارة غير المحتمل، أو تهاجمهم أمراض القلب الناتجة عن التلوث".
وأضافت: "يجب أن ننجو من هذا المستقبل وبيدنا الاختيار، ويجب أن يتخذ قادة الحكومات القرارات التي تنقذ صحة الناس حتى لو كان ذلك يستلزم توابع سياسية واقتصادية".
المخاوف الصحية المرتبطة بتغير المناخ في ارتفاع مستمر، خاصّة أنه تسبب فيما يزيد على مليوني حالة وفاة خلال 50 عاماً فقط في الفترة ما بين "1970 و2019"، وخسائر قيمتها 3.64 تريليون دولار أمريكي، وفقا لأطلس المنظمة العالمية للأرصاد الجوية للوفيات والخسائر الاقتصادية الناجمة عن الظواهر الجوية والمائية والمناخية المتطرفة، كما تقول توقعات الصحة العالمية بأنه من المتوقع أن يسبب تغير المناخ في الفترة من عام 2030 إلى عام 2050، نحو 250 ألف وفاة كل عام بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري.
في الوقت نفسه، تشير السيناريوهات المستقبلية إلى أنّ العالم بصدد مستويات قياسية من ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وهو ما أكّده التحديث المناخي الأخير للمنظمة العالمية للأرصاد، الذي قال إن السنوات الخمس المقبلة ستكون الأكثر حرارة بفعل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وظاهرة النينو الطبيعية، ومن المحتمل أن تكون إحدى هذه السنوات هي "الأكثر حراً في التاريخ".
وجاء تقرير الصحة العالمية الأخير ليؤكد مجدداً أن الآثار الصحية لتغير المناخ تشتد بشكل غير عادل في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل مع أنها الأقل مساهمة في حصة الانبعاثات الكربونية العالمية، كما تتأثر الفئات الضعيفة بهذه المخاطر أكثر من غيرها، مثل الفقراء وكبار السن والنساء والأطفال، فعلى سبيل المثال هناك 600 مليون حالة من الأمراض المنقولة عن طريق الأغذية على مستوى العالم، 40% منها من الأطفال دون السنوات الـ5، كما ارتفعت نسبة الجوع بشكل مهول في أفريقيا وآسيا خلال الأعوام الأخيرة، وتسبب تغير أنماط درجات الحرارة وهطول الأمطار في زيادة انتشار الأمراض التي ينقلها البعوض والقراد والقوارض .
انتشار الأمراض الحساسة لتغير المناخ
وكان نصيب الدول النامية 91% من حالات الوفيات الناجمة عن تغير المناخ عالمياً خلال الخمسين عاماً الأخيرة، وفقاً لإحصائيات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في الوقت نفسه، عانت هذه الدول من انتشار الأمراض الحساسة لتغير المناخ، فأظهر تقرير الملاريا العالمي في عام 2020 -وهو مرض ينتقل إلى البشر بواسطة لدغات أنثى حشرات بعوض الأنوفيليس-، أن الإقليم الأفريقي حاز الحصة الأكبر من عبء المرض العالمي، وفي عام 2019 حدث فيه 94% من حالات الإصابة بالملاريا والوفيات الناجمة عنها، كما ينتشر الإسهال على نطاق واسع في الدول النامية وأشهر مسبباته فيها "الفيروس العجلي والاشريكية"، وينتقل بالأساس عن طريق المياه الملوثة بالبراز، وبينما يقتل 1400 طفل يومياً حول العالم كان أكثر من نصف هذا العدد بسبب مياه الشرب غير الآمنة، وسوء النظافة والصرف الصحي.
وكان للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل النصيب الأعظم من وفيات تلوث الهواء، فوقعت بها 91% من إجمالي 4.2 مليون وفاة مبكرة على مستوى العالم في 2016، وتركز العدد الأكبر في إقليمي جنوب شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ.
ولا تزال نظم الإنذار المبكر، أي استخدام أنظمة اتصال للتنبؤ بالمخاطر المحتملة للمناخ، تمثل بارقة أمل لخفض الوفيات الناجمة عن تغير المناخ وإنقاذ الأرواح، فخلال الخمسين عاماً الماضية تسبب تغير المناخ والطقس المتطرف في مضاعفة عدد الكوارث بمقدار خمسة أمثال، بينما نجحت أنظمة الإنذارات المبكرة وإدارة الكوارث في خفض الوفيات بمقدار ثلاثة أمثال تقريبا، لكن المشكلة قائمة ولا تزال هناك فجوات شديدة في شبكات الرصد الجوي والهيدرولوجي في أفريقيا وبعض أجزاء أمريكا اللاتينية وفي الدول الجزرية في المحيط الهادئ ومنطقة البحر الكاريبي، كما يرى تقرير صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في 2021.
خلل كبير في التمويل
استخدام هذه الأنظمة يمكن أن يؤدي إلى زيادة فعالية مكافحة الأمراض من خلال التدخل في بداية منحنى الوباء أو قبل حدوثه، بدلاً من البدء في الإجراءات متأخرا، وبالتالي يصبح من الممكن تحسين توقيت وتأثير مكافحة المرض، إذ تعمل هذه النظم على رصد الظروف البيئية، وتوقع الظروف عالية الخطورة ثم إرسال التنبيهات لإنشاء آلية للاستجابة المبكرة كما يرى دليل منظمة الصحة العالمية لتقييم جودة نظم الإنذار المبكر بالمناخ والأمراض المعدية، والذي أطلقته عام 2021.
ولا يزال تمويل الإجراءات الصحية لمواجهة تغير المناخ يعاني من خلل كبير، فوجد تقرير نشرته مجلة "ذا لانسيت الطبية"، في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعنوان "الصحة تحت رحمة الوقود الأحفوري"، أن الظواهر المناخية المتطرفة في 2022 أحدثت دماراً في العالم كله وزادت الضغط على الخدمات الصحية، لكن التمويل المخصص لا يزال عاجزاً عن سد هذه الاحتياجات الصحية، وفي عام 2019، أجرت منظمة الصحة العالمية دراسة استقصائية على 101 دولة، فوجدت أن 60 % من هذه الدول تعاني من ضعف التمويل المخصص للصحة المرتبطة بتغير المناخ، كما أن أقل من 25% من البلدان كانت لديها علاقات تعاون بين قطاع الصحة والقطاعات الرئيسية الأخرى المسببة للتلوث، مثل النقل وتوليد الكهرباء والطاقة المنزلية.