تركيا التي ظلت تنتظر لعقود لكي تنتمي إلى الأسرة الأوروبية ويمارس فيها المواطنون حقوقهم الديمقراطية باتت أكبر سجن للحريات في العالم
قبل نحو عامين، وتحديدا في فبراير 2017 كان المجلس الأوروبي، أعلى هيئة أوروبية تهتم بحقوق الإنسان، حذر من أن تركيا تمضي بخطوات ثابتة "في مسار خطير" فيما يتعلق بمجال حقوق الإنسان، وأشار في تقرير ضخم أصدره قبل أيام من الاستفتاء على تغيير النظام السياسي في تركيا إلى نظام رئاسي يؤدي إلى فقدان حرية وسائل الإعلام وحرية التعبير في تركيا؛ حيث بلغت "حدا خطيرا" بعد إعلان الدولة حالة الطوارئ، عقب محاولة الانقلاب الفاشل. وقتها انتقد مفوض حقوق الإنسان الأوروبي نيلس مويزينيكس تعريف الحكومة التركية الفضفاض للإرهاب والدعايات الإرهابية، التي تشمل بيانات لا تحرض على العنف، وسجن العشرات من الصحفيين، والإفراط في استخدام قوانين الإساءة للسمعة لإسكات المنتقدين، وقطع الإنترنت، واستخدام موارد الدولة في وسائل الإعلام الموالية للدولة.
لا يزال سجل حقوق الإنسان في تركيا في هبوط مستمر يكاد أن يصل إلى أدنى المراتب الدولية، بعد أن قبع في قاع المراتب الإقليمية، في ظل استمرار الانتهاكات الممنهجة لكافة حقوق المواطن التركي على أيدي السلطات التركية
وأعرب وقتها عن قلقه العميق من أن التعديلات الدستورية التي كانت على وشك الاستفتاء عليها سيترتب عليها المزيد من تقلص استقلال السلطة القضائية مقابل السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولم يكد يمر عامان على هذا التحذير إلا وتحقق، وربما بشكل فاق ما كان سائدا وقتها من قلق على مصير الشعب التركي ومن توقعات سلبية بشأن حقوقه وحرياته، فلا يزال سجل حقوق الإنسان في تركيا في هبوط مستمر يكاد أن يصل إلى أدنى المراتب الدولية، بعد أن قبع في قاع المراتب الإقليمية، في ظل استمرار الانتهاكات الممنهجة لكافة حقوق المواطن التركي على أيدي السلطات التركية، فلا يكاد يخلو تقرير واحد من تقارير المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية برصد حالة حقوق الإنسان في العالم من إدانة واضحة للممارسات القمعية التي تقوم بها السلطات التركية في حق مواطنيها، وكذلك الحال فيما يتعلق بالإنتاج البحثي لمراكز الدراسات والبحوث المعنية بالحقوق والحريات التي تطرقت في كثير من دراساتها إلى الوضع غير المسبوق الذي وصلت إليه تركيا تحت حكم أردوغان، الذي حولها إلى أكبر سجن مفتوح في العالم.
وكان آخر هذه التقارير ما صدر عن "مركز نسمات للدراسات الحضارية والاجتماعية" بالقاهرة، وهو مركز أبحاث مهتم بالشأن التركي؛ حيث أصدر قبل أيام تقريره الخامس بعنوان "مأساة المرأة في تركيا بين السجن والتشريد". ألقى فيه الضوء على مجموعة قضايا طرحها في شكل أسئلة وأجاب عنها بعض الضحايا الأحياء أو ذووهم الذين قضوا نحبهم نتيجة ممارسات قمعية. كما استند التقرير إلى معلومات متوافرة عبر وسائل الإعلام العالمية وتقارير المنظمات الحقوقية العالمية، وخلص التقرير إلى أن الحملة الأمنية الواسعة التي قادتها السلطات التركية عقب الانقلاب المزعوم في يوليو 2016 أسفرت عن اعتقال ما يقارب 18 ألف امرأة، بدعوى وجود صلات لهن بحركة "الخدمة" التي تصنفها الحكومة التركية على أنها حركة إرهابية، وتتهمها دون دليل واحد بأنها تقف خلف الانقلاب.
ووفقاً للتقرير، فإن كثيراً من النساء التركيات تعرضن للتمييز وتعرضت حقوقهن للانتهاك، ولفت إلى أنه خلال شهر فبراير من عام 2018 قتلت 48 امرأة على يد رجال الأمن، وخلال السنوات الثماني الماضية قتل قرابة 2000 امرأة تركية، كما أشار التقرير إلى أن تركيا أصبحت بالنسبة لملايين المواطنين الأتراك بمثابة سجن كبير مفتوح، فتحت مسمى قانون "الشبهة المعقولة" الذي يخالف الدستور التركي كلية، وتعرضت كثير من النساء المحسوبات على حركة الخدمة للاعتقال، كما أوضح التقرير أن الضغط النفسي والاجتماعي الذي تعاني منه نساء تركيا اليوم لم يعد في مقدور أحد تحمله، الأمر الذي دفع العديد من النساء للإقدام على الانتحار، إلا أن الأمر الأكثر رعبا للنساء في تركيا هو ما أشار إليه التقرير من الدعوة إلى اغتصاب النساء المنتميات لحركة الخدمة، وهو ما سجله التقرير وفقاً لإفادة رسمية قدمها ثلاثة متهمون أتراك بمحاولة اغتصاب ست معلمات في غرب مدينة إزمير أمام المحكمة في 18 فبراير 2017، قالوا فيها إنهم أرادوا إجبار المعلمات على مغادرة المدينة لاعتقادهم أن الضحايا كانوا على صلة بحركة الخدمة.
ونتيجة لتلك المأساة، اضطر كثير من الرجال والنساء في تركيا إلى محاولة الهجرة بطرق غير شرعية، في محاولة منهم للهروب من حال الرعب الدائم التي يعيشونها داخل بلادهم، نتيجة منع السلطات التركية مئات الآلاف من المواطنين من السفر خارج البلاد، وإلغاء جوازات سفر العديد منهم، بالإضافة إلى افتقادهم للأمان الاجتماعي؛ حيث يتهرب منهم أقاربهم وجيرانهم خوفاً من عقاب السلطات، إلا أن الكثير منهم يموتون أثناء محاولة الهروب، كما وضع التقرير المتابعين للشأن التركي أمام المعاناة المتزايدة التي تعاني منها النساء داخل السجون؛ حيث أصبحت السجون الست الخاصة بالنساء في تركيا مكتظة بالسجينات، ما دعا السلطات التركية إلى احتجاز النساء في سجون مخصصة للرجال بصورة أساسية، وبالطبع فإن هذه السجون غير مجهزة لتلبية احتياجات النساء، وهو ما يعد عقوبة إضافية فضلا عن أن أمن السجن يكون في الغالب تحت إدارة الرجال غالبا، إضافة إلى أنهن يتعايشن مع النزلاء من الرجال السجناء، وهكذا تعيش النساء في بيئة خطرة، حيث يكثر التحرش الجنسي بهن وأحيانا يصل الأمر إلى درجة اغتصابهن.
واختتم "مركز نسمات" التقرير بكلمة أكد فيها أن تركيا التي ظلت تنتظر لأكثر من عقد من الزمن لكي تنتمي إلى الأسرة الأوروبية ويمارس فيها المواطنون حقوقهم الديمقراطية والسياسية والإعلامية بكل حرية باتت اليوم أكبر سجن للحريات في العالم، وهذا ما أكدته كل التقارير الحقوقية الصادرة عن أكبر المنظمات الدولية، مثل منظمة العفو الدولية التي أكدت في تقرير ها لعام 2018 أن انتهاكات حقوق الإنسان لا تزال تستمر بشكل منهجي في تركيا؛ حيث تقمع المعارضة بلا هوادة، وكان من بين المستهدفين صحفيون وناشطون سياسيون ومدافعون عن حقوق الإنسان، كما استمر الإبلاغ عن وقوع حالات تعذيب وغيرها من ضروب المعاملة السيئة، كما ظلت العيوب تشوب تنفيذ "اتفاقية إسطنبول لمكافحة العنف ضد المرأة"، بعد أكثر من خمسة أعوام من تصديق تركيا عليها، وظلت البلاغات عن وقوع حالات عنف ضد النساء في تزايد مضطرد.
هذا التردي في الحقوق والحريات وضع تركيا في أدنى مرتبة بالنسبة لحقوق المرأة، فوفقاً لمؤشر معهد جورج تاون للمرأة والسلام والأمن (GIWPS) فإن تركيا جاءت في مرتبة متدنية للغاية في مجال حقوق المرأة، بعد أن احتلت المرتبة 105 من بين 152 تضمنها التقرير، وهذا ما يعني أن مقولة أردوغان الشهيرة "لا يمكنكم المساواة بين الرجل والمرأة، هذا مخالف للفطرة البشرية" تحولت من رأي شخص لا يؤمن بالمساواة إلى سياسة دولة لا تحترم المرأة ولا تصون حقوقها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة