لا يطيق أردوغان سماع أي إدانة لمذابح الأرمن أو الاعتراف بها أو استعادة ذكرها بأي شكل من الأشكال
في صفعة قاسية على وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أعلن نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي أن يوم الرابع والعشرين من أبريل كل عام سيكون يوماً لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك العثمانيين، إبان وجودهم في أراضي الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن الماضي، وما أقدم عليه ماكرون كان وفاء بوعد انتخابي قطعه في أثناء حملته الانتخابية في عام 2017، إلا أنه انتظر نحو عامين لتنفيذه في كلمة أمام مأدبة عشاء سنوية لمجلس تنسيق المنظمات الأرمينية في فرنسا، قال فيها إن بلاده من أوائل الدول التي نددت "بملاحقة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية"، مؤكدا أن بلاده لديها خلافات مع تركيا حول محاربة تنظيم داعش الإرهابي وحقوق الإنسان والحريات المدنية في تركيا والإبادة الجماعية للأرمن.
لا يطيق أردوغان سماع أي إدانة لمذابح الأرمن أو الاعتراف بها أو استعادة ذكرها بأي شكل من الأشكال، لأنه يجد نفسه في موقف المدان.. لا أجداده فقط، لذلك بمجرد صدور قرار الرئيس الفرنسي بإحياء ذكرى المذبحة جن جنون أردوغان وأطلق آلته الإعلامية وأذنابه وتابعيه
لقد أزعج قرار الرئيس الفرنسي السلطان العثماني بشدة؛ لأنه ذكره بماض دموي بغيض لبلاده يريد من العالم أن ينساه، ذكره بما فعله أجداده الذين تلوثت أيديهم بدماء شعب مسالم.. لا لشيء سوى تحقيق المزيد من أحلام التوسع والهيمنة، لذا لا يريد أردوغان لأحد أن يعيد فتح واحدة من أسوأ صفحات التاريخ، ولا أن يذكر شعوب العالم بواحدة من أبشع الجرائم التي عرفها التاريخ الحديث حين قامت الدولة العثمانية قبل نحو قرن من الزمان بعمليات قتل ممنهج وتهجير قسري للأرمن من جنوب وشرق الأناضول إلى الشام والعراق، في مذبحة تصنف بأنها ثاني أكبر مذبحة جماعية في التاريخ، إنها جريمة كبرى يقدر كثير من الباحثين ضحاياها بما يتراوح بين مليون إلى مليون ونصف ضحية، وهو رقم ضخم بمعايير ذلك الوقت، وحتى بمعايير وقتنا الراهن، لقد كانوا جميعا ضحايا الطريقة المنهجية المنظمة التي نفذت بها عمليات قتل وترحيل قسري تهدف إلى القضاء على الأرمن خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وربما صيغ مصطلح "الإبادة الجماعية" من أجل وصف هذه الأحداث التي كان من بين ضحاياها كثير من النساء والأطفال والشيوخ.
لا يطيق أردوغان سماع كلمة مذابح الأرمن، ويستشيط غيظاً تجاه أي دولة تعترف بهذه المذابح أو أي رئيس يتخذ قراراً بإحياء ذكراها، وربما لا يعود سبب هذا الغضب إلى أن هذه القرارات تذكره فقط بالماضي الأسود الذي ارتكب فيه أجداده هذه المذابح، ولكن ربما أيضاً لأنها تلقي ضوءاً على حاضر تركي لا يزال يشهد ممارسات مماثلة وينفذ فيه أردوغان مذابح بحق شعوب أخرى، انطلاقاً من الأسباب نفسها التي تذرع بها أجداده، فما أقدم عليه السلطان العثماني الجديد تجاه الأكراد في عفرين السورية في القرن الواحد والعشرين لا يختلف كثيراً عما أقدم عليه السلطان عبدالحميد الثاني قبل قرن من الزمان تجاه الأرمن، فالمعضلة الأخلاقية والسياسة واحدة، والمبررات كذلك واحدة، فبينما ادعت الدولة العثمانية أن مجازر الأرمن جاءت دفاعاً عن استقرارها ومواجهة خصومها الدوليين، ادعت تركيا زوراً وبهتاناً أن معاركها في سوريا ضد الإرهاب، وأنها ضرورة قصوى لحماية الأمن القومي التركي، وفي الحالتين كان هناك آلاف الضحايا من قتلى وجرحى ونازحين ولاجئين، وفي الحالتين أيضاً كان هناك توظيف للدين الإسلامي وتلاعب به واستغلاله لتبرير هذه المذابح والقضاء على الأقليات التي لا تقبلها تركيا ولا تتسامح معها.
ففي أثناء مذابح الأرمن نادت المساجد العثمانية بالجهاد ضد الأرمن، حتى أن المجتمعين بالمساجد تحت تأثير الشحن الديني أقسموا على "عدم ترك أرمني واحد على قيد الحياة"، وبعد مرور أكثر من قرن على هذه الواقعة ومع بدء عملية "غصن الزيتون" في عفرين، زاد التوجه نحو تديين الخطاب الرئاسي التركي من خلال الاستخدام المكثف للنصوص الدينية والمقولات التراثية، وهو ما تجلى في دعوة أردوغان المواطنين الأتراك للذهاب للمساجد وتلاوة سورة "الفتح"، المنوط بها قضاء الحوائج ونيل المراد من أجل انتصار القوات التركية في عملية "غصن الزيتون"، وروجت المجالس الدينية المسماة بـ"مجالس علماء الدين" للحملة العسكرية التركية، وأقامت الصلوات لنصرة "الجهاد" التركي المزعوم.
لم تبدأ معاناة الأكراد مع الأتراك من عفرين ولن تتوقف عندها، فثمة مواجهات مسلحة بين حزب العمال الكردستاني شرق تركيا والدولة منذ عام 1984، وراح ضحيتها الآلاف ناهيك عن مواجهات تركيا مع الأكراد في جبال قنديل وسنجار شمال العراق.
ربما لهذه الأسباب الحاضرة لا يطيق أردوغان سماع أي إدانة لمذابح الأرمن أو الاعتراف بها أو استعادة ذكرها بأي شكل من الأشكال، لأنه يجد نفسه في موقف المدان.. لا أجداده فقط، لذلك بمجرد صدور قرار الرئيس الفرنسي بإحياء ذكرى المذبحة جن جنون أردوغان وأطلق آلته الإعلامية وأذنابه وتابعيه، ليس فقط لإدانة قرار فرنسا، بل محاولة تشويهها وهدم مصداقيتها، فقال المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية التركي عمر جليك "إن على فرنسا مواجهة تاريخها، خصوصا جرائم القتل وانتهاكات حقوق الإنسان التي تورطت فيها السلطات الفرنسية"، مؤكداً أن بلاده لن تكتفي بالتنديد، بل ستكون هناك "تداعيات" لهذا القرار على العلاقات التركية الفرنسية.
خلاصة القول.. أن النهج التركي في استباحة دم البشر وانتهاك كرامة الشعوب لتحقيق مكاسب سياسية لم ينتهِ مع مذابح الأرمن ولم يتوقف مع سقوط الدولة العثمانية، فقد جاء لتركيا من أحيا هذا النهج الدموي بامتياز، وهنا فإن مماطلة تركيا في الاعتراف بإبادة الأرمن بعد مرور 104 أعوام عليها، وسيطرتها على عفرين بعد عملية "غصن الزيتون" الدموية، ومحاولة السيطرة على منبج والتوغل في العراق لا ينفصل عن محاولات وجهود حثيثة لإحياء إرث الدولة العثمانية في التمدد جغرافيا والهيمنة سياسيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة