يريد البعض أن يعيد التاريخ قسرا إلى قرون سابقة ويتبنى نظرية "التفويض الإلهي"
محصلة معظم الأزمات التي تضرب منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة هي المحاولة القسرية «لجمع ما لا يُجمع»، وهي عملية سياسية مؤدية إلى الخسران، حيث حاولت شعوب كثيرة في التاريخ أن تفعل ذلك وفشلت ولم تستفق إلا بعد حروب أهلية طويلة وأنهار من الدماء.
جمع ما لا يُجمع هو محاولة جمع الثابت والمقدس والمثالي والمطلق (الدين) مع المتغير والتعددي والنسبي (السياسة)، أيْ في مكان آخر وبتعريف آخر «تسليع الدين»، أيْ جعله سلعة في سوق السياسة.
ذلك هو صلب الأزمة التي تعانيها معظم دول الشرق الأوسط اليوم، ودون مناقشة ذلك العوار المستحكم في الفضاء السياسي الذي يبرز في كثير من مظاهر الأزمات العالقة، فإن معظم النقاشات تذهب سدى لأنها جانبية تعالج الفرع دون أن تلمس الأصل، ويثبت لنا تاريخ التطور السياسي في «الدولة العربية الإسلامية» الهوّة المبكرة التي ما برحت تتسع بين المثال والواقع إلى أن اختفى المثال كلياً الذي يرغب البعض في تقليده ويفقد إلى حد الفقر معطياته الأولية، حيث يذكر لنا إمام عبد الفتاح في كتابه «الطاغية» أن عباس العقاد قد انتبه مبكراً إلى المفارقة التي سماها «تقابل الضدين اللذين لا يتفقان»!
يريد البعض أن يعيد التاريخ قسراً إلى قرون سابقة ويتبنى نظرية «التفويض الإلهي» بدلاً من التقدم إلى الأمام ومعايشة العصر في الدولة المدنية الحديثة!
يأتي اليوم السيد مهاتير محمد من ماليزيا الذي يفهم الإسلام بطريقة مختلفة عن الآخرين.
ويأتي من طرف آخر السيد رجب طيب أردوغان كي يزيد من تقسيم ليبيا على سبيل المثال دفاعاً «عن الإسلام المعتدل»! والحقيقة أنها تجيير الأزمات لصالح الاقتصاد التركي.
أما في بيروت فيُعرَّض المحتجون البسطاء للاضطهاد والملاحقة والضرب بسبب «صور غير لائقة نُشرت لبعض رجال الدين»، ومن الطبيعي أن من يعرّض نفسه للشأن العام والانشغال بالسياسة فهو هدف «شبه طبيعي» للنقد، فلماذا هذا التشنج وعدم الفصل بين أصول الدين واجتهاد البشر؟! في اليمن القصة أكثر فداحة، فهناك قلة تدّعي أنها من «أنصار الله» في وسط أغلبية مختلفة الاجتهاد.
تقديري أن الأزمة أكثر عمقاً في إيران، وهي التي تكافح اليوم لتُبقي نفوذها في بلاد عربية من خلال «تهديد العامة والبسطاء» بأنهم باختلافهم معها في السياسة يخرجون من الملّة، ذلك ظاهر في الأزمة المستحكمة في العراق، فالقوى المسلحة المدعومة من طهران وأحزابها تأخذ الشعب العراقي رهينةً ومن يعارضها فهو مهدور الدم وباسم الملّة.
تلك المعضلة في الشرق الأوسط أو في معظم دوله تحتاج إلى إعادة زيارة، فالربط بين الثابت والمتحول ربطاً تعسفياً يقودنا إلى عصور مظلمة تُراق فيها الدماء وتُحلّ المحرمات وتفقد الدولة كل معايير الحداثة، مما جعل المسلمين في الأرض يعانون الاضطهاد في أوطان كثيرة ومختلفة المشارب من الصين إلى الهند إلى الولايات المتحدة حتى أمريكا الجنوبية امتداداً حتى إلى نيوزيلندا بسبب هذا التصور لدى البعض لحكم العالم!
الدخول إلى الدولة المدنية الحديثة أمامه عقبات تصطدم بأصحاب مصالح يختفون حول عباءة الدين شكلاً أو يفترضون ملكية ناصيته طريقاً لخداع العامة والاستحواذ السياسي على أكثر المنافع. أمام هذه الإشكالية لا بد من مخرج له طريقان؛ الطريق الأول هو البحث الفكري الجاد والشجاع لتخليص المتغير والنسبي من الثابت، فكل من يلتحف بعباءة الدين سياسياً وجب الوقوف أمامه بكل وضوح وفضح طروحاته، فليس هناك في الإسلام «نظام سياسي» لأنه تُرك لاتفاق الناس ومصالحهم المرسلة كي يقرروا كيف يحكمون أنفسهم، وأي حديث باسم السلف بشكل عام أنهم حددوا شكل الدولة هو ضحك على العقول وأخذ الناس إلى أماكن التهلكة.
أما الطريق الآخر فهو عرض أمثلة الفشل الذريع لكل من ادّعى أنه يمثّل الإسلام واستولى على السلطة، ولدينا أمثلة كثيرة قديمة وحديثة توسلت الشعارات وباءت بفشل ذريع في إدارة الدولة، فقد أُغرق الشعب السوداني بقوانين قيل له إنها تمثل الإسلام وأدت إلى تكميم الأفواه وزج الناس في السجون وإشعال الحروب المتعددة وتقسيم البلاد وإفقار الدولة وسرقة أموالها، وكذا في العراق الذي ابتُلي بأحزاب تتوسل الدين أوصلت الناس إلى التظاهر لأشهُر في الشوارع في محاولة لتخليص أنفسهم من هذا الكابوس، وقد امتلأت وسائل الاتصال بأهازيج وأغانٍ وأشعار تهزأ من «المعمَّم الذي يخلط بين السياسة والدين».
أما في إيران فيكفي أن «المعممين» في الانتفاضة الأخيرة كانوا يفرون أمام مطاردة الجماهير، وتتزايد أرقام الاعتقالات التي تجاوزت عشرات الآلاف ومئات من القتلى نتيجة الانتفاضة الأخيرة، وهي تشير إلى عقم ذلك الحكم المختفي حول شعارات دينية ولا يستطيع أن يقدم الحد الأدنى من الأمن والعيش لجماهير ضخمة من المواطنين، كل الهمّ هو الحفاظ على السلطة والتسلط بها على الناس.
عدد الموقوفين في سجون نظام السيد أردوغان متضخم، ومن يجرؤ على المعارضة فهو من جماعة «الانقلاب»، ولم تعد النيابة العامة التركية قادرة على التعامل مع تلك الأعداد الضخمة، فيلقى كثير منهم في السجون دون محاكمة، كل ذلك لأن مشروع الحزب الحاكم يختفي حول شعارات الإسلام ويتبنى مناصروه في الخارج الدفاع عنه وتحسين سوءاته وتبرير أخطائه!
إذاً في العمق والمسكوت عنه، دون نقد فكرة معادلة جمع ما لا يُجمع بين الثابت الديني والمتحرك السياسي، وفضح استخدام الأول لتبرير الثاني، نبقى أمام المعضلة نفسها التي واجهت أوروبا في العصر الوسيط والتي أنتجت حروباً بينية بالغة القسوة في الشكل والمضمون، كان المخالفون السياسيون يُتهمون بـ«الهرطقة» وعند القبض عليهم يُحلق شعر رأسهم بالمنجل ثم يُربطون كل ثلاثة أو أربعة بحبل واحد ويحاطون بالقش والخشب ثم تشعل فيهم النيران.
اليوم تغيّر استخدام الوسيلة، فأي معارض مثلاً في بغداد يطالب بأن يعيش مثل باقي الناس محترماً ومصونة حريته، فإنه يغادر الدنيا برصاص قناص أو برصاص مسدس كاتم للصوت، وهو في كل الأحوال «من شيعة الإنجليز» كما قال المرشد الإيراني. أما الآخر في لبنان فيتم حرق خيمه ويطارَد بالأسلحة البيضاء في أزقة بيروت المتعرجة!
ليس جديداً على تراثنا الثقافي استخدام مقولات الدين بشكل معوجّ في السياسة، سماها الأقدمون «الفتنة» التي وُصفت بأنها أشد من القتل، وهو أعظم العقوبات، فالقتل يحدث لأشخاص معدودين على سوئه ولكن الفتنة تحدث للمجتمعات التي تدخل في حروب أهلية تتصف بالاستمرار والفجور فيهلك الحرث والضرع. من هنا فإن أولى أولويات العمل الفكري والسياسي في فضائنا العربي الجهر بسوء المنقلب إن تسامحنا مع تلك الفئات التي تستخدم الدين في السياسة وتخلط الأوراق على المواطن إلى درجة إشاعة الفتنة حتى بين الأسرة الواحدة وليس بين الفئات الاجتماعية فحسب، في محاولة فاشلة لجمع ما لا يُجمع.
آخر الكلام:
يريد البعض أن يعيد التاريخ قسراً إلى قرون سابقة ويتبنى نظرية «التفويض الإلهي» بدلاً من التقدم إلى الأمام ومعايشة العصر في الدولة المدنية الحديثة!
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة