نقطة البدء المقترحة لهزيمة التهديد الإيراني هي أبعد حلقاته عن مركز نظام الملالي
أثبتت خبرة التعامل مع التهديد الإيراني طوال العقود الأربعة الماضية أننا إزاء تهديد مراوغ، ما إن تحاصره من ناحية، إلا ويبرز لك من ناحية أخرى. مصدر المراوغة في التهديد الإيراني هو تعدد طبائعه، فإيران ثورة، وعقيدة سياسية؛ وهي أيضا دولة، وجماعة مذهبية، وهي فوق ذلك ائتلاف لأذرع وتنظيمات مسلحة. الطبائع المتعددة للتهديد الإيراني تتيح لطهران فرصة كبيرة للمراوغة؛ فمرة تتصرف وفقا لمنطق الدولة الملتزمة بقواعد القانون، ومرة ثانية تتصرف وفقا لمبادئ الثورة الأعلى من أي قانون. مرة تتصرف كما لو كانت دولة وطنية، لتجدها بعد قليل تنطق باسم جماعة مذهبية. وبينما تدعي إيران البراءة من التورط في أعمال عدائية ضد الجيران، نجدها تطلق مليشيات تأتمر بأمرها للتحرش بهم.
نقطة البدء المقترحة لهزيمة التهديد الإيراني هي أبعد حلقاته عن مركز نظام الملالي، وأقربها إلينا، وأقصد بذلك التجمعات الشيعية المنتشرة في البلاد العربية، فنحن أولى بالشيعة العرب من إيران، ونجاحنا في تعزيز التضامن الوطني على حساب الهويات الطائفية، يساوي حرمان إيران من البطن العربي
تأسس النظام الإيراني نتيجة لثورة أطاحت بالنظام السابق؛ هذا هو أهم عنصر في الخبرة التأسيسية للنظام الإيراني. الخبرة التأسيسية للدول والنظم السياسية تترك بصماتها وآثارها لعقود طويلة، وإن كانت في النهاية تزوي وتختفي، وإيران ليست استثناء. للنظم التي تتأسس بطريقة ثورية منطقها الخاص ومزاجها المميز، الأمر الذي ينعكس بقوة على مجمل السياسات التي تمارسها. لدى النظم الثورية إفراط في الثقة بالنفس، والاعتقاد في القدرة على تحقيق الأهداف، بما فيها الأهداف التي تبدو لكل صاحب عقل سوي أهدافا مستحيلة، فمن انتصرت ثورته على نظام قمعي راسخ يمكنه النجاح في فعل أي شيء آخر، هكذا يفكر العقل الثوري.
استمرت الأعمال الاحتجاجية ضد نظام الشاه لمدة نحو عامين، قبل أن يسقط النظام في النهاية. وخلال هذين العامين تعرضت الثورة لانتكاسات، وكانت هناك لحظات فقدت فيها الثورة زخمها، وكانت هناك تنازلات وإصلاحات من جانب النظام بهدف تهدئة الشارع والوصول إلى حل وسط.
غير أن كل ذلك لم يوقف الثورة أو يضع حدا لها، لأن قادة الثورة، ركزوا أنظارهم على تحقيق هدفها النهائي، ولم يسمحوا لأي تطورات جانبية، سلبية أو إيجابية، أن تحرف بصرهم عن الهدف الذي خرجوا من أجله. ما زالت هذه العقلية تهيمن على طريقة تفكير وعمل النخبة الحاكمة في إيران، وهي العقلية نفسها التي تملي عليهم الطريقة التي يديرون بها سياسة إيران الخارجية، بحيث لا تثنيهم الانكسارات عن متابعة العمل من أجل الهدف النهائي الكبير، ولا تغريهم المكاسب المرحلية بالتوقف عن متابعة الهدف الأبعد والأكبر.
لم تكن الثورة الإيرانية مجرد عملية تغيير سياسي أزاحت عن الحكم نخبة حاكمة، وبدلتها بأخرى؛ فنخبة الملالي التي أوصلتها الثورة إلى السلطة أتت ومعها نظرة للعالم وأيديولوجيا ونظرية في الحكم تختلف جذريا عن سابقتها؛ أقصد بذلك عقيدة التشيع الثوري ونظرية "ولاية الفقيه"، وهي مزيج من الفقه الشيعي والوطنية الراديكالية وأفكار اليسار الثوري المعادي للإمبريالية والغرب.
توليفة الثورة والعقيدة الراديكالية هي مزيج متفجر ينذر بسياسة خارجية ثورية، تجعل من التغيير الذي أحدثته الثورة في الداخل عملية مستمرة مرشحة للتمدد في المجال السياسي الخارجي.
الثورة تغيير جذري عنيف للأمر الواقع في الداخل، والعقيدة الثورية تزين للقائمين على النظام الجديد مواصلة الثورة في جوار إقليمي، يتحول إلى حقل تجارب وضحية لسياسات تصدير الثورة، وهو توجه تشترك في اتباعه النظم الثورية العقيدية، بغض النظر عن طبيعتها الأيديولوجية.
فحروب نابليون من أجل إسقاط النظم الأوتوقراطية في أوروبا كانت تصديرا للثورة الفرنسية للقارة الأوروبية؛ وتوسع الاتحاد السوفيتي في شرق ووسط أوروبا ومناطق أخرى في العالم كان تطبيقا لمبدأ تصدير الثورة نفسه؛ وتدخل إيران في شؤون دول الجوار، وسعيها لتقويض النظم السياسية القائمة فيها، ودعمها للجماعات المسلحة الموالية في المحيط الإقليمي هو أسلوب نظام الملالي في تصدير الثورة.
غير أن إيران ليست دولة صاحبة عقيدة سياسية فقط، ولكنها أيضا جماعة مذهبية. فقد نصبت إيران نفسها ناطقة باسم المسلمين الشيعة في المنطقة والعالم، وهي الخدعة التي كشفها مؤخرا كثير من الشيعة حول العالم، خصوصا في العراق.
لكن حتى وقت قريب كانت إيران قد نجحت في كسب تعاطف وتأييد قطاعات من الشيعة في الإقليم وخارجه، وكان هناك وقت تعلقت فيه أبصار كثير من المسلمين الشيعة بإيران، في انتظار الإشارات والتوجيهات المقبلة من المركز المذهبي المزعوم.
لقد منحت الادعاءات الإٍسلامية للنظام الإيراني الفرصة لاختراق الجوار والتمدد فيه. غير أن الطبيعة المذهبية لنظام الملالي هي أكثر ما مكنه من النجاح في تحقيق هذا الاختراق. فالأديان والمذاهب هي بطبيعتها تيارات عقائدية، وهويات فوق أممية عابرة لحدود الدول؛ لكن بينما تمثل هذه الهويات انتماءات روحية لمعتنقيها، سعى نظام الملالي لتسييس ما هو روحاني، ومأسسة ما هو اعتقادي، فحوّل المذهب إلى طائفة، استغلها لتحقيق مخططاته وأطماعه.
لم تقف إيران عند حدود تسييس المذهبية، وتحويلها إلى طائفية، بل قطعت خطوة إضافية شديدة الخطورة عندما قامت بتجنيد العناصر الأكثر تصديقا لعقيدة ولاية الفقيه، والأكثر إيغالا في الطائفية، فخلقت من هؤلاء تنظيمات مسلحة، تؤجج الصراع في بلدانها، وتشيع عدم الاستقرار في المنطقة. حزب الله في لبنان؛ وعصائب أهل الحق، وسرايا الخراساني، وكتائب سيد الشهداء، ولواء أبو الفضل العباس، وجيش المهدي، والفصائل المكونة للحشد الشعبي في العراق؛ ومليشيا فاطميون الأفغانية؛ ولواء زينبيون الباكستاني، هذا بعض من كل في القائمة الطويلة التي تضم المليشيات المسلحة التي أنشأتها إيران في كل بلد وجدت فيه فرصة مواتية.
تشكل هذه الأذرع المسلحة نوعا من الفيدرالية المليشياوية، الملحقة بالحرس الثوري الإيراني، الذي يتولى قيادتها سياسيا وعملياتيا، بدرجة عالية من التناسق، لخدمة أهداف السياسة الإيرانية. فحزب الله هو الحاكم الفعلي للبنان؛ فيما المليشيات في العراق تحمي نفوذ ومصالح إيران المسيطرة في هذا البلد؛ أما المليشيات الأفغانية والباكستانية فتتم تعبئتها للحرب في سوريا لمساندة المجهود الحربي الإيراني هناك، بالإضافة إلى ما تضمه من خلايا إرهابية نائمة تستخدمها إيران عند الضرورة، وهو ما منح إيران بلا منازع مكانة الدولة الأولى الداعمة للإرهاب في العالم.
إلى جانب كل ذلك وفوقه، فإن إيران هي دولة القومية الفارسية. هذه هي الحقيقة المؤكدة، التي تحاول إيران إخفاءها وراء السواتر الأيديولوجية والمذهبية والطائفية. فتاريخيا كانت الهضبة الفارسية قاعدة انطلاق لدول قومية متعاقبة، أخذت أسماء متعددة، فكانت هناك دول الساسانيين، والبويهيين، والصفويين، والقاجاريين، وآل بهلوي؛ حتى جاءت دولة الملالي التي تحمل اسم الجمهورية الإسلامية، والتي لا تختلف كثيرا من الناحيتين الوظيفية والاستراتيجية عن أي من الدول الفارسية التي سبقتها في السعي لفرض الهيمنة على الجوار، وإن كانت الطبائع المتعددة لدولة الملالي تتيح لها قدرة أكبر على الخداع والتسلل والهيمنة.
مواجهة التحدي الإيراني متعدد الأوجه ليست بالأمر السهل، ولكنها ليست بالمهمة المستحيلة أيضا؛ الأمر يحتاج فقط إلى فهم عميق، وعزيمة قوية، وصبر طويل. القومية الفارسية والدولة الإيرانية هي مفردات التاريخ وحقائق الجغرافيا غير القابلة للتجاهل أو التغيير؛ لكن العقلية الثورية المتغطرسة، والعقيدة الثيوقراطية الطائفية، ونزعة الهيمنة، وتغليب التضامن الطائفي على الانتماء الوطني، هي مستجدات أفرزها نظام حكم الملالي، وهذه هي الأشياء المطلوب هزيمتها.
غير أن هذه القائمة من الأهداف طويلة جدا، ولا بد من تركيز الجهد وتحديد نقطة بداية؛ ونقطة البدء المقترحة لهزيمة التهديد الإيراني هي أبعد حلقاته عن مركز نظام الملالي، وأقربها إلينا، وأقصد بذلك التجمعات الشيعية المنتشرة في البلاد العربية، فنحن أولى بالشيعة العرب من إيران، ونجاحنا في تعزيز التضامن الوطني على حساب الهويات الطائفية، يساوي حرمان إيران من البطن العربي الرخو، الذي اخترقت من خلاله بلاد المنطقة، ولنا في الاحتجاجات الشعبية في العراق مؤشر مشجع على إمكانية الدفع في هذا الاتجاه، شريطة أن يتم ذلك بغير استفزازات تأتي بآثار عكسية، وبغير تعجل يثير الريبة، وبغير افتعال يقوض المصداقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة