كون دولة الإمارات العربية دولة حديثة رشحها لكي تؤسس لشرعيتها على النظر للمستقبل بديلا عن استراتيجية التركيز على الماضي والتاريخ
شاءت الأقدار أن أزور دولة الإمارات العربية المتحدة مرتين خلال فترة قصيرة؛ واحدة في أبوظبي، والأخرى في دبي، وفي كلتيهما كان "الملتقى الاستراتيجي"، وكان الموضوع دوما هو ماذا يجري في الدنيا والإقليم، وماذا يكون عليه حال المستقبل. الخبراء والمحللون كل في مكانه ينقل خبراته وخبرات بلاده، وكيف كانت التجربة مثمرة أو فاشلة؛ المهم أنها تنقل دروسا وفكرا جديدا. المدينتان أصبحتا في مقدمة المدن العالمية عمارة، وسواء كنت قادما على طيران الاتحاد أو الإمارات فإنك في الحقيقة تأتي على متن ما هو أكثر تقدما وضيافة من الشركات العالمية المعروفة، وما إن تصل إلى المطارين حتى تجد نفسك في قلب الثورة العلمية والتكنولوجية الرابعة التي كثيرا ما يتحدثون عنها في الغرب.
كون دولة الإمارات العربية دولة حديثة رشحها لكي تؤسس لشرعيتها على النظر للمستقبل بديلا عن استراتيجية التركيز على الماضي والتاريخ. والمستقبل الخاص بدولة الإمارات هو مستقبل دولة وضعت نفسها في قلب التطور العالمي في نواحي الاقتصاد والأعمال والتكنولوجيا، بحيث يتم تعزيز النظر الدائم للمستقبل كطريق للتفكير والحياة لدى المواطنين وأجهزة الدولة
ولا توجد مبالغة في أن المثال الإماراتي ربما يضعنا على أبواب إجابة عن سؤال طرح في مقال سابق عن "تجديد الفكر العربي" من زاوية المستقبل، أي أن تتعامل الدولة بأركانها من شعب وأرض وسلطة، وزمان ومكان أيضا، مع مشروع مستقبلي يتخطى كل الإشكاليات العربية المعروفة في علاقة الدين بالدولة، والدين بالمجتمع، والتقاليد بالحضارة، والانقسامات العرقية والطائفية التي تعاني منها المجتمعات العربية بأشكال مختلفة.
القضية في العالم العربي لم تعد فقط كيف أتينا إلى "هنا" بكل ما فيها من تبعات وإشكاليات خبرناها خلال العقود الماضية، وإنما هي كيف نصل إلى "هناك" حيث يوجد المستقبل الواعد الذي يلهب المواهب ويطلب الابتكارات ولا يتفضل فيه عربي على أعجمي إلا فقط بالتقوى، وإنما أيضا بالعلم. وليس سرا على أحد أن الدولة العربية تعرضت لامتحانات قاسية خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هددت فيه وجودها وتماسكها الوطني. وأيا كانت تفاصيل ما حدث فيما سمي زورا الربيع العربي فإن السؤال الدائم: كيف يكون الخروج من شبكة كبيرة من المآزق والتعقيدات والحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية؟ وفي الموجة الثانية التي نشبت خلال العام الجاري وقبل القدوم إلى العقد الثالث من القرن الحالي فإن مظاهرات العراق ولبنان والسودان دارت جميعها حول "الدولة الوطنية" والمشروع الوطني المستقبلي شكلا ومضمونا، وفي دبي وأبوظبي كان هناك بعض من الإجابات.
وقبل أسبوع، احتفلت دولة الإمارات العربية المتحدة بعيد استقلالها الثامن والأربعين؛ وفي مصر فإن "كل عام وأنتم بخير" للأشقاء في الدولة الشقيقة هي في مكانها ووقتها تماما. في المكان لأن تجربة الإمارات بالفعل فريدة وحافلة بالاختبارات الصعبة، وفي الوقت لأن زمننا ربما هو من أصعب الأوقات. زيارتي الأولى كانت لدبي قادما من قطر جرت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بدعوة من العزيز د. يوسف الحسن الذي كان دبلوماسيا وباحثا أكاديميا، وكان في طريقه إلى إنشاء مركز للدراسات الاستراتيجية في الوقت الذي كنت فيه نائبا لمدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة.
وبعدها توالت الزيارات متقطعة بعد نهاية ألفية وبداية أخرى، وجرت كلها بين دبي وأبوظبى، وحينما سمحت الظروف أتيحت لي مشاهدة الشارقة والعين؛ ولا أظن أن مشاهدة أي منهما كانت تمر دون شهقة تصاحب ما هو ماثل من تغيرات خلابة. كانت الإمارات دائما "جديدة" حتى بعد مرور الزمن، وحتى عندما تعرض لأعمال "بيكاسو" أو تقيم متحفا "للوفر"؛ فهناك في كل الأوقات آلة كبيرة للحداثة والتحديث تعمل على مدار الساعة، تعاملت مع ما تبقى من القرن العشرين، ولكن العقل والقلب كان مع القرن الحادي والعشرين في معادلة مستعصية بين الأصالة والمعاصرة. اقترب عمر الدولة من نصف قرن، ولكن أهلها عاشوا لقرون على تلك المساحة من الأرض على ضفاف الخليج، حيث باتت الأزمان فيها تتقلب بسرعة مخيفة، ولكن النتيجة كانت دوما أن الإمارات أصبحت عنوان العرب في التقدم إلى الأمام في تراتيب العالم.
إن للعيد الوطني لدولة الإمارات في 2 ديسمبر/كانون الأول معنى مزدوجا؛ فهو احتفال بذكرى الاستقلال بكل ما يثيره هذا المصطلح من معانٍ وطنية، وهو من جانب آخر احتفال بذكرى قيام دولة الاتحاد 1971 بكل ما تثيره هذه التجربة من صعوبات وتحديات جرت مواجهتها منذ أن كانت مجرد فكرة إلى أن اصبحت حقيقة سياسية ملموسة؛ ليس في المنطقة فحسب بل على المستوى الدولي. والحقيقة أن الإنجاز والتقدم الذي حققته دولة الإمارات يستحق الفخر بكل المعايير، وتتضح قيمة هذا الإنجاز كلما تمت مقارنته بالماضي السابق على قيام الدولة، فكل طريق تم شقه، وكل مدرسة تم بناؤها، وكل مسكن جديد تم تعميره أسهم في نقل البلاد من حال إلى حال. وتقوم الإمارات كدولة اتحادية على درجة كبيرة من التنوع، ورغم أن المشروع الاتحادي يسعى لتحقيق الوحدة والانسجام وتعزيز الهوية الوطنية المشتركة، فإنه لا يضع نفسه في تعارض مع التنوع القائم في البلاد، وعلى العكس فإن توسيع مفهوم الهوية الوطنية والمجتمع والدولة لاستيعاب هذا التنوع يعمق شعور الانتماء لدى المواطنين من كل المناطق والانتماءات.
كون دولة الإمارات العربية دولة حديثة رشحها لكي تؤسس لشرعيتها على النظر للمستقبل بديلا عن استراتيجية التركيز على الماضي والتاريخ. والمستقبل الخاص بدولة الإمارات هو مستقبل دولة وضعت نفسها في قلب التطور العالمي في نواحي الاقتصاد والأعمال والتكنولوجيا، بحيث يتم تعزيز النظر الدائم للمستقبل كطريق للتفكير والحياة لدى المواطنين وأجهزة الدولة. ولا يوجد قلق حقيقي في دولة الإمارات على قضايا الهوية لدى الجيل القادم، ربما لأن الدولة تسابق الزمن إلى المستقبل. وإذا كان هناك قلق على الجيل الشاب الذي يتعرض لمؤثرات متعارضة شائعة في المنطقة بين الأصولية والمعاصرة، فإن الآباء المؤسسين لدولة الإمارات هم أبطال ورموز الدولة الذين فتحوا الأبواب لتطور الحياة بالإمارات في مجالات العلم والتعليم والصحة والفنون المختلفة حتى وصل الجيل الجديد إلى الفضاء.
وكل ذلك لم يكن ممكنا إلا بالتأكيد على الطابع المؤسسي والحديث لدولة الإمارات، فلنظام الحكم في دولة الإمارات بعدان؛ الأول هو الدور التاريخي للأسر الحاكمة التي التفت حول الشيخ زايد آل نهيان - رحمه الله - من أجل قيام الاتحاد، والثاني هو أن العلاقة التي تربط هذه الأسر الحاكمة وتربط معها الإمارات ونواحي الدولة المختلفة هي علاقة مؤسسية حديثة تتمثل في المجلس الأعلى للاتحاد، والمجلس الوطني والحكومة الاتحادية، وتطبيق استراتيجية تسعى لتوحيد السوق الوطنية. قيمتان سعى الآباء المؤسسون للدولة إلى تطبيقهما والمستقبل نصب أعينهم: التسامح، والسعي نحو السعادة؛ ليس فقط للمواطنين وإنما أيضا للعاملين في الإمارات والذين قدموا من مشارق الأرض ومغاربها.
التجربة الإماراتية تقدم إجابات لعدد من المعضلات العربية من حيث التعامل مع التنوع بكل أشكاله المعروفة في شكل غني ولا يطرح مشكلة؛ وفي التعامل مع قضية المركزية بطرح لا مركزي يعطي مساحات كبيرة للإبداع والابتكار والتجديد. والقضية الأكبر هي كيف يمكن التعامل مع عالم ليس فقط بالغ التنوع، وإنما فيه من التعددية ما هو مرهق ودافع على القلق، حيث بات الانفتاح الكبير في البلاد على جنسيات وشعوب متنوعة حملت ثقافاتها معها نوعا من الغنى والإضافة، وليس سبيلا إلى الانقسام والخوف والشعور المزمن بالتهديد. الإجابة عن الإشكاليات الكبرى في الإمارات تصبح ممكنة لأنها مشروع مستقبلي ودائم التطلع إلى الأمام وتقدم دروسا كثيرة لدول عربية لا تزال تصنع مستقبلها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة